عرف العالم العربي المجالس النيابية منذ القرن التاسع عشر، وأجريت فيه انتخابات تنافسية على مدى نحو قرن من الزمان، ولا تكاد تمر سنة واحدة من دون انتخابات عامة في هذا البلد أو ذاك، لكن الانتخابات العربية مازالت شكلاً بلا مضمون، ووسيلة لـ"شغل المسرح" وإلهاء الجمهور وغسل سمعة الأنظمة، أكثر من كونها آلية للحكم وتكريساً للشرعية وأسلوباً سلمياً حضارياً لتداول السلطة.

Ad

باستثناء تجارب شديدة الندرة وغير مستديمة الأثر، لم تفلح أي انتخابات جرت في العالم العربي من المحيط إلى الخليج في تحقيق أهم أهداف الانتخابات على الإطلاق: "تعزيز شعور المواطن بالكرامة"، وبدلاً من ذلك، تأخذ الانتخابات العربية هذا المواطن إلى حيث تهدر كرامته، سواء عبر تزييف إرادته أو تسليع صوته أو قمع مواقفه.

تكمن أهمية الانتخابات في منحها الشرعية للهيئة المنتخبة لممارسة أدوارها باسم الأمة التي انتخبتها، وفي تعبيرها عن إرادة المواطنين بشكل متكامل ومسؤول، وفي منحهم الفرصة للمشاركة في صنع مستقبلهم واختيار نمط حكمهم وممثليهم السياسيين.

وتسمح الانتخابات للشعوب باختيار قادتها الوطنيين واكتشاف قدراتهم واختبارهم بالمنافسة السلمية المسؤولة، كما تمكن تلك الشعوب من ممارسة الرقابة بحق الحكام، وإخضاع المخطئين أو المتقاعسين منهم للمحاسبة والعزل.

تحد الانتخابات من ثقافة القوة وتداعياتها الخشنة، وتحجم تأثير المال الواسع، وتبلور الشعور الوطني، وتخلق إحساساً بالعزة والأهمية في نفوس أبناء الشعب، وتؤسس لثقافة المساواة بينهم، وترسخ مبدأ تكافؤ الفرص، وتعزز ثقافة الديمقراطية والمشاركة والحوار، وتحفظ النسيج المجتمعي، وتصون السلم الأهلي، وتعزز مشاعر الانتماء والولاء والمسؤولية لدى المواطنين، وتمنحهم الأمل في المستقبل.

تحقق الانتخابات كل هذه الأهداف، وتكتسب كل تلك الأهمية، لكنها لم تستطع إقناع الدول الوطنية العربية بضرورة الحرص على إجرائها وفقاً لمعايير النزاهة الدولية، وبدلاً من الارتكان إليها لتحديد مصير النخب النيابية والحاكمة في مجتمعاتنا، تتحول إلى لعبة سمجة ومطية سهلة لسلطة الحكم وغيرها من السلطات التقليدية المتحالفة ضد الحداثة.

وسواء كانت تلك الانتخابات في الكويت أو اليمن أو الأردن، حيث تتحكم سلطة القبيلة ونفوذ القوى التقليدية، أو في مصر حيث "البلطجة" والعنف وشراء الأصوات وتسويد البطاقات، أو في سورية وليبيا وتونس حيث اتهامات القمع والتزوير، أو في العراق ولبنان حيث الطائفية البغيضة، أو في المغرب والجزائر وموريتانيا حيث الانقضاض على النتائج غير المواتية، أو في السعودية والإمارات، حيث لم تجر الانتخابات التمثيلية الكاملة أساساً، أو في الصومال المتشظية، أو السودان الذاهب إلى الانفصال، فالحال واحدة والعلل متشابهة والنتائج محسومة سلفاً.

في عام 1866 عرفت مصر أول مجلس نيابي في إفريقيا والشرق الأوسط، حين أنشأ الخديوي إسماعيل "مجلس شورى النواب" على غرار الجمعية الوطنية الفرنسية، ومنذ تم سن دستور 1923، بدأت حياة نيابية شبه حقيقية في هذا البلد، عبر انتخاب أعضاء البرلمان انتخاباً مباشراً من قبل الجمهور، لكن التزوير لم يلبث أن أصبح قاسماً مشتركاً أعظم في العمليات الانتخابية التي شهدتها البلاد منذ ذلك الحين.

ومن بين عشرات العمليات الانتخابية التي أجريت في مصر، لم تكن هناك سوى انتخابات محدودة جداً يمكن اعتبار أنها تمتعت بحد أدنى من النزاهة، وقادت حزب الأغلبية إلى تشكيل الحكومة، لكنها أيضاً لم تفلح في بلورة الإرادة الوطنية للشعب نحو تحقيق الاستقلال أو تداول السلطة التي ظلت محصورة في ملكية وراثية غير دستورية.

وعندما قامت ثورة يوليو دخلت الحياة الانتخابية في نفق مظلم، حيث بات منصب رئاسة الجمهورية يمنح عبر استفتاء، وتم تزوير معظم الانتخابات النيابية، باستثناء عدد محدود جداً من الانتخابات التي أمكن أن تمر بلا تزوير واسع، لكنها لم تكن مؤثرة على الإطلاق في مسار الحياة السياسية في البلاد.

تشهد مصر اليوم جولة إعادة في إطار انتخابات برلمانية جرت جولتها الأولى يوم الأحد الماضي، لتشكيل مجلس شعب (الغرفة العليا في البرلمان) تستمر ولايته خمس سنوات، وينهض بأدوار مهمة في التشريع والرقابة، لكن تلك الإعادة، كما الجولة الأولى، تفقد المصداقية، وتقاطعها أحزاب وقوى سياسية عديدة، ولا يشعر الجمهور أنها تعبر عن إرادته أو تمنحه الأمل.

استطاع الحزب الحاكم في مصر أن يكتسح الجولة الأولى من الانتخابات التي جرت الأحد الماضي، وهيمن على معظم المقاعد التي حسمت نتائجها، وتزيد فرصه في الهيمنة على المجلس من خلال جولة الإعادة اليوم، خصوصاً بعد انسحاب جماعة "الإخوان المسلمين" المحظورة، وحزب "الوفد" احتجاجاً على مخالفات صارخة شهدتها الانتخابات في غيبة الإشراف القضائي الكامل، والرقابة الدولية، وتحجيم رقابة المجتمع المدني الوطني وتقييد التغطية الإعلامية.

معظم ما دار خلال العملية الانتخابية المصرية لم يكن له علاقة واضحة بالسياسة، ولم يكن يمت بأي صلة للحداثة؛ فقد أمكن رصد عمليات تزوير واسعة، واستخدام لمقدرات الدولة لمصلحة الحزب الحاكم، وتقييد الترشيحات، واعتقال ناشطين، وبروز النزعات الجهوية والقبلية، ومنع ناخبين من التصويت، وخلط للدين بالسياسة، وتقليص الرقابة والإشراف والمتابعة، وشراء الأصوات، وممارسة العنف والبلطجة على نطاق واسع، وتضخيم أعداد المشاركين عشرات الأضعاف.

لم تجد الطبقة الوسطى في المدن الرئيسة أسباباً وجيهة للمشاركة في الانتخابات، وشارك الفقراء والمهمشون وموظفو الدولة والقطاع العام طمعاً أو قمعاً، وباع الأكثر فقراً أصواتهم بدولارات معدودة أو بأرطال لحم وسلع غذائية وبطاطين، وواصلت المؤسسة الأمنية تهيئة الأوضاع لحسم النتائج لمصلحة الحزب الحاكم، الذي بات مجمعاً للمصالح والنفوذ ورجال المال، والذي ضمن هيمنة كاسحة على البرلمان لسنوات خمس حساسة ستشهد حسم مسألة الخلافة.

ثمة مرشحون نجحوا في تلك الانتخابات عبر عمل ميداني وسياسي حقيقي، وثمة ناخبون شاركوا عن اقتناع بأهمية إحداث التغيير عبر صناديق الاقتراع، لكن النقاط الإيجابية في تلك الانتخابات كانت محدودة وباهتة وعشوائية، بحيث دُفنت تماماً في ركام من المخالفات.

كرست الانتخابات المصرية أزمة الانتخابات العربية، وأضافت سطراً جديداً إلى سجل متكامل وآخذ في النمو من الإحباطات، وأعطت للجمهور سبباً جديداً لفقدان الاهتمام بالعملية السياسية، والبقاء غارقاً في نزعات تقليدية دينية أو قبلية أو مناطقية، أو صريعاً للعنف والقمع والتزوير والرشاوى الانتخابية.

لن تنجح المجتمعات العربية في تخطي أزماتها من دون الولوج في عصر الحداثة، وتلك في حاجة ماسة إلى الديمقراطية، التي توفر لها الانتخابات أفضل الوسائل للتحقق والازدهار. ومن دون عملية انتخابية نزيهة وفعالة ومتمتعة بحد أدنى من النزاهة، فيمكن توقع المزيد من الانسداد في حياة المجتمع العربي، وهو انسداد لن يفضي سوى إلى تكريس العصبية والارتداد والميل إلى العنف.

* كاتب مصري