إعادة توحيد ألمانيا وأوروبا الجديدة

نشر في 05-11-2010
آخر تحديث 05-11-2010 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت بعد مرور عشرين عاماً منذ اكتمال عملية إعادة توحيد ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، أصبحت ألمانيا الموحدة واحدة من أعظم الأنظمة الديمقراطية على مستوى العالم، والواقع أن العديد من المراقبين يرجون لو تصبح أيضاً أكثر أوروبية في مظهرها وسلوكها، ولكن ألمانيا لا تتحمل المسؤولية الرئيسة عن قتل الرؤية السياسية لأوروبا.

كنت قد بدأت كتابة هذا العمود بعد فترة وجيزة من حلول الذكرى السنوية لمناسبة بالغة الأهمية، كان الثالث من أكتوبر 1989، هو التاريخ الفعلي لتنفيذ القرار المذهل الذي اتخذ قبل شهر واحد فقط من ذلك التاريخ، ففي الثالث والعشرين من أغسطس صوت مجلس النواب في ألمانيا الشرقية لمصلحة التزام أقاليم ألمانيا الشرقية من جانب واحد بدستور ألمانيا الغربية، وكانت المادة 23 من القانون الأساسي في ألمانيا الغربية بهذا، ولكن لم تستشر حكومة ألمانيا الغربية ولا برلمانها قبل اتخاذ ذلك القرار.

وفي وقت لاحق تم تحديد شروط إعادة التوحيد في إطار معاهدة تم التوقيع عليها في برلين في الحادي والثلاثين من أغسطس 1990، ثم التصديق عليها من قِبَل البرلمانين في ألمانيا الشرقية والغربية في العشرين من سبتمبر، كما تم التوقيع على معاهدة السلام بين الدولتين الألمانيتين والحلفاء الأربعة المنتصرين في موسكو في نفس اليوم، ثم أعلِنت إعادة التوحيد رسمياً في الثالث من أكتوبر.

والواقع أن هذه الأحداث، التي أنجزتها ثلاث جهات فاعلة، هزت العالم، وغيرته إلى الأبد: الأولى كانت متمثلة في ميخائيل غورباتشيف الذي وافق على القانون- فتح الحدود بين النمسا والمجر- والذي أشعل فتيل سلسلة الأحداث التي أدت إلى إعادة توحيد شطري ألمانيا. وكان غورباتشيف هو الذي أعلن أن قوات الاتحاد السوفييتي لن تتدخل لدعم الأنظمة الشيوعية المتعثرة ضد إرادة شعوبها، وهو الإعلان الذي استهدف ألمانيا الشرقية بصورة مباشرة.

وكانت الجهة الثانية متمثلة في مستشار ألمانيا الغربية هلموت كول، الذي اندفع عبر الثغرة في سور برلين، متجاهلاً حذر حلفائه، في حين كانت الشخصية الثالثة متمثلة في شعب ألمانيا الشرقية، الذي اندفع إلى الشوارع، متجاهلاً كل المخاطر، في نُصرَة إعادة التوحيد ودفعها إلى الأمام.

وكان لهذه الأحداث تأثير عميق على العلاقات بين ألمانيا وحلفائها، ففي نظر الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا كانت الأحداث تسير بسرعة أعظم مما ينبغي لها، وكان الأمن الدولي في خطر إن لم تؤكد ألمانيا الجديدة عضويتها في منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) (وهو ما فعلته ألمانيا أخيراً). ولكن لبضعة أشهر، كانت هناك مخاوف أن تطالب روسيا بانسحاب ألمانيا من الحلف كشرط لموافقتها على إعادة توحيد شطريها.

وفي حين كانت الولايات المتحدة حريصة على إخفاء شكوكها، فإن بريطانيا العظمى وفرنسا كانتا أقل ارتياحاً، ولقد اقتصر تعبير رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر عن انزعاجها على التصريحات العامة القلقة، في حين شعر الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بضرورة ارتجال زيارة إلى برلين الشرقية، في مخالفة لرأي وزارة خارجيته وعلى الرغم من الحماس العظيم الذي أبداه الشعب الفرنسي لإعادة توحيد شطري ألمانيا. وكان ميتران يرجو بزيارته تلك إبطاء العملية وربط المفاوضات ببعض الضمانات الدولية. بيد أن جهوده باءت بالفشل، ومازالت قابعة في ذاكرة برلين حتى يومنا هذا.

كان الدافع وراء «مهمة» ميتران يتلخص في تحديد الاحتياطات التي يمكن اتخاذها أو الواجب اتخاذها في مواجهة النزوات والأهواء المحتملة لهذا الشعب القوي الذي لا يمكن التنبؤ بسلوكه. وفي النهاية تم تكريس الاستجابة في معاهدة ماستريخت، التي قضت بتمديد صلاحيات الاتحاد الأوروبي إلى الشؤون الخارجية والمسائل القضائية، الأمر الذي جعل هذه الشؤون والقضايا تتعدى الحدود الوطنية جزئياً.

ولكن بريطانيا العظمى والدنمارك أصرتا على ضرورة ممارسة هذه الصلاحيات الجديدة على المستوى الحكومي فقط، وليس على مستوى المفوضية الأوروبية، وبهذا لا يتم تمريرها إلا بالإجماع. ولم تصوت فرنسا، فكان الفوز من نصيب بريطانيا والدنمارك. وبات لزاماً على أوروبا أن تتخذ التدابير المشتركة المرتبطة بالشؤون الخارجية على أساس الإجماع فقط، وبهذا وُلدت أوروبا السياسية مجهضة في لحظة كانت تحمل إمكانات عظيمة.

وكانت هذه خيبة أمل كبيرة بالنسبة لألمانيا، خصوصاً بعد أن أصبحت عاجزة عن الاعتماد على فرنسا، حليفتها الرئيسة في أوروبا، وفي ألمانيا ذاتها، كان الفشل في تحقيق رؤية متكاملة سياسياً لأوروبا فدرالية سبباً في إرباك القوى السياسية المناصرة لأوروبا وإضعاف السلطة المعنوية الأخلاقية لجيل الحرب. ولقد شعرت ألمانيا الجديدة وجيل ما بعد الحرب بالإغراء لاستعادة هوية ألمانية موحدة، ولكن منعزلة، هوية ذات نفوذ في أوروبا والعالم أجمع، ونتيجة لهذا، تراجعت ألمانيا الموحدة بشكل طبيعي في اتجاه مجال هيمنتها القديم، أوروبا الشرقية.

بيد أن زعماء ألمانيا لم يشعروا بالارتياح إزاء هذه التغيرات. وفي سبتمبر 1994 نشر اثنان من أعضاء البرلمان المنتمين إلى حزب الأغلبية، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بياناً سياسياً عن أوروبا، أعربا فيه عن شكوكهما في مستقبلها، خصوصا بشأن احتمال إقامة اتحاد فدرالي أوروبي. ولقد استقبل ذلك البيان بصمت كئيب، الأمر الذي أدى إلى انعزال المؤسسة الألمانية المناصرة لأوروبا وتثبيط عزيمتها.

بل في شهر مايو 2000، ألقى يوشكا فيشر الزعيم السابق لحزب الخضر الألماني ووزير خارجية ألمانيا، خطاباً طويلاً حول ضرورة التكامل الأوروبي. ولقد طُرِحت مسألة الفدرالية الأوروبية على البلدان الأعضاء، فامتنعت جميعها عن الرد، والتزمت فرنسا بصورة خاصة الصمت، الأمر الذي جعل ألمانيا تشعر من جديد بهجر شركائها لها.

وبدأت عملية التآكل بتحفيز من الدبلوماسية البريطانية، ولقد نجحت تلك العملية، وأصبحت احتمالات التكامل الأوروبي الحقيقي على صعيد الشؤون الخارجية والدفاع موضع إنكار عند كل خطوة في المفاوضات اللاحقة في إطار معاهدات أمستردام ونيس على التوالي، ثم المشروع الدستوري المجهض ولشبونة.

ثم مر الوقت وتغيرت الأجيال، ففي ألمانيا اليوم، ولأنه لا أحد ممن يتمتعون بسلطة حاسمة سواء في مجال الأعمال أو المال أو الحكومة شهد الحرب، فلم يعد أحد ينظر إلى المشروع الأوروبي باعتباره عاملاً مؤثراً في المستقبل الجمعي لأوروبا، والواقع أن هؤلاء الزعماء الجدد ينظرون إلى أوروبا باعتبارها نظاماً للتجارة وحسب. ومن ناحية أخرى تسعى الدبلوماسية الألمانية بنشاط إلى إعادة بناء مجالي النفوذ الاقتصادي والثقافي للبلاد، وليس فقط في أوروبا الشرقية.

ولقد بات تأثير هذا المنظور الأوروبي المفقود واضحاً في خريف عام 2008، ففي أعقاب أزمة الرهن العقاري الثانوي وإفلاس «ليمان براذرز»، كانت أول ردة فعل من جانب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مغرقة في القومية ومناهضة لأوروبا في مجملها، ولم نر أي خطة أوروبية مشتركة لمعالجة الأزمة، ولم يناد أحد بتمويلات عامة، وكان على ألمانيا أن تحمي ودائعها المصرفية من جانب واحد ومن خلال وسائل خاصة، ولم تعد ألمانيا إلى العالم الأوروبي للمشاركة في اجتماع قمة مجموعة العشرين إلا بعد أن استشعرت خطورة الوضع.

وبعد مرور عشرين عاماً منذ اكتمال عملية إعادة توحيد شطري ألمانيا، أصبحت ألمانيا واحدة من أعظم الأنظمة الديمقراطية على مستوى العالم، والواقع أن العديد من المراقبين يرجون لو تصبح أيضاً أكثر أوروبية في مظهرها وسلوكها، ولكن ألمانيا لا تتحمل المسؤولية الرئيسة عن قتل الرؤية السياسية لأوروبا.

* ميشيل روكار | Michel Rocard ، رئيس وزراء فرنسا الأسبق في وقت إعادة توحيد شطري ألمانيا، وهو زعيم سابق للحزب الاشتراكي الفرنسي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top