الموت حق، وأصعب الرثاء رثاء الأحبة وآخرهم معلمي أحمد البغدادي، حيث تتفرعن الذاكرة في خيانتها وتتلاشى المعاني الجميلة من مجرى القلم ولكن لابد من المحاولة.
لقد بدأ البغدادي رحلة جديدة بعد أن فرغ من حياته الأولى التي ودّعها قبل أوانها بوصية إنسانية باهرة، فهو لم يكن لحظة عابرة في تاريخنا، بل زمن كامل ينتظر أن يعيشه جيل عقلاني غير هذا الجيل، فإذا كنا قد فشلنا في معركة المستقبل لقلة الجنود وانتكاس مشروع الدولة العصرية، فسيفرض التطور آلياته الحتمية لينتصر عقل البغدادي ورؤية الآباء المؤسسين في نهاية المطاف.عندما علم زميل دراسة أني سجلت مادة عند البغدادي عام 1992 سألني مستنكرا «ليش ما خذ عنده هذا نحيس بالدرجات؟» أجبته بكلمتين «أبي أتعلم»، لقد كان اختياري له في ساعة تبصر في رحلة صناعة الفارق التي لن أجدها عن معلمي «الهون أبرك ما يكون» بل من فدائيي «بقاء الحال من المحال» ففي مجتمع يعيش حياتين ولسانين وعين واحدة تصعب معرفة الحقيقة إضافة الى المجاهرة بها.في المحاضرات الأولى اكتشفت الفارق وأدركت أن تجاوز هذه الموجة العاتية ولا أعني هنا المادة العلمية سيجعلني أكثر صلابة في مواجهة الأزمات الفكرية وتقلبات أحوال الناس، لذلك ما انتهيت من مقرر «فكر سياسي غربي» حتى دخلت عالم أستاذي الواسع الذي تحول إلى صديق مقرب وأخ كبير وضمير دائم يحاسبني كلما وهنت عزيمتي.أولى ثمار عالم البغدادي هي القراءة والحرص على سلامة اللغة العربية والأمانة العلمية في النقل وكأنه يجهزني لبداية جديدة في مسيرتي الصحافية، وعندما بدأ الكتابة في «الطليعة» ثم في السياسة عاينت جرأته وتلازم مسار حديثه المخفي مع مسار حديثه المعلن وهذه عندي خير خصاله، وفي صولاته الفكرية مع أقلام... «اللهم أني صائم» وأصحاب المصالح الضيقة، عاينت مفهوم المثقف الجبان الذي يريد إصلاح المجتمع وهو غارق مع أشباهه في صالونات التنظير لا يسمع طنينهم غير الغبار الذي تراكم فوق رؤوسهم وأغلفة أعمالهم الكاسدة فهنيئاً للغبار بهم ولأعمالهم.أحمد البغدادي كشف لي ديمقراطية بعض الديمقراطيين الذين لم يتحملوا النقد لمسار عملهم في الشأن العام عندما تداخل مع مصالحهم الشخصية، كما حمل منفرداً في أحيان كثيرة لواء تصحيح المسار لما يجب أن تكون عليه المواجهة مع الأفكار الظلامية والمشاريع التسلطية.في الختام، فإن أكثر ما أحزنني لرحيل أستاذي هو أن اليأس الذي تمكن منه في سنواته الأخيرة رغم أن الكثير من خصومه إما تواروا خجلاً خلف سرقاتهم العلمية وإما انشغلوا في جمع الدرهم والدينار... فعزائي الوحيد فيه هو العلم النافع الذي خلّفه في مؤلفاته العلمية ومقالاته التنويرية، فهل علمتم لماذا هو ممنوع من الموت؟الفقرة الأخيرة: رسالتي إلى صاحب الأكاديمية الصحافية الأستاذ أحمد الجارالله التي خرجنا من تحت عباءتها، أن خير تكريم لكاتبكم الراحل أحمد البغدادي هو بإصدار كتاب يجمع مقالاته في صحيفة «السياسة»، خصوصاً المقالات الفكرية الطويلة التي نشرها منتصف التسعينيات، وأنا على يقين أنك مدرك لأهمية هذه الخطوة... فمَن تحمّل بشجاعة نشر آراء البغدادي التي لا تتحملها صحف كثيرة، لن يعجز عن جمعها في سفر واحد يخلد كاتبها ومَن تبناه، شكراً مقدماً «بومشعل».
مقالات
الأغلبية الصامتة: البغدادي... ممنوع من الموت
12-08-2010