حين اندلعت الثورة في تونس، بدا أن النظام الليبي الأكثر انتباهاً لتفاعلاتها، والأشد حرصاً على احتواء تداعياتها، والأكثر إخلاصاً للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والأوضح انتقاداً لمحاولات الإطاحة به.

Ad

انعكس قلق الزعيم الليبي معمر القذافي في تصريحاته المتتالية إبان الثورة التونسية، داعياً إلى الهدوء، وناصحا التونسيين بالإبقاء على رئيسهم لأنهم «لن يجدوا مثيلاً له»، كما ظهر واضحاً في الاتصالات المتكررة التي أجراها مع الرئيس المصري المتنحي حسني مبارك، على هامش الحدث التونسي، ومع تصاعد الأحداث في مصر اعتباراً من 25 يناير الماضي.

بل إن القذافي راح أيضاً يحاول تعزيز فرص مبارك في البقاء، وعندما تسربت أنباء عن امتلاك هذا الأخير ثروة تراوح ما بين 40 إلى 70 مليار دولار، سارع الزعيم الليبي إلى النفي، مصرحاً بأن «مبارك فقير وكنا نساعده».

سقط الجاران إذن... وبقي القذافي وحيداً، وربما لن يجد من يساعده ولو بتصريح من عينة «مبارك فقير»، و«الزين ما بيستاهل ما جرى له من شعبه»، فهل كان بوسعه أن يفعل ما هو أفضل مما فعل، لكي يعيد تأهيل نظامه، بشكل يقيه من الإطاحة، التي يبدو أنها تلوح في الأفق؟

لا يتعلق الأمر بالقذافي وليبيا، لكنه أصبح سؤالاً كبيراً مطروحاً في العديد من العواصم: ماذا يمكن أن يفعل النظام الحاكم كي يتفادى هذه الريح العاتية التي تنتقل كتسونامي ثوري يقتلع الحكام من مقاعدهم ويرميهم للذل والمرض في زوايا النسيان بالقصور المعتمة؟

لم يكن بمقدور الكثيرين، وأنا شخصياً منهم، التنبؤ بأن الثورة التونسية يمكن أن تلهم شعوباً أخرى في المنطقة للخروج على المألوف وإطاحة حكامها وأخذ مصيرها بيدها.

لكن ما جرى في مصر غيّر الكثير من المفاهيم، وبدّل السيناريوهات، وأنشأ حقائق جديدة سيكون لها تأثير كبير على مستقبل المنطقة.

لم تشهد مصر ثورة شعبية نجحت في إطاحة حكم وتغيير نظام منذ السنة 525 قبل الميلاد، حين ثار المصريون على الاحتلال الفارسي، وبعد هذا التاريخ، ظل المصريون يتنقلون من حكم إلى حكم، عبر غلبة القوة، وتحت نير الاحتلال، كما ظلت هباتهم في حدود الانتفاض والسعي إلى التغيير من داخل النظام عوضاً عن إطاحته.

لكن شبان «ثورة النور» التي اندلعت في 25 يناير الماضي صنعوا تاريخاً جديداً لبلادهم، وحققوا ما عجزت مئات الأجيال عن تحقيقه عبر آلاف السنين، وكشفوا عن أصل نبيل لجوهر قيم ومعدن راق للمصريين، وأشاعوا روح الثورة في المنطقة، وألهموا أشقاءهم العرب روح التمرد والاحتجاج كما ألهموهم دائماً عبر التاريخ بكثيرمن القيم. ومع تلك الروح الثورية المهيمنة على المزاج العام في المنطقة العربية بأسرها، بحيث أيقظت التونسيين، وألهمت المصريين، ووصلت إلى الليبيين، لتزعزع حكماً ظل متماسكاً على مدى 42 عاماً، في دولة ريعية محدودة السكان، يمكن توقع المزيد في أكثر من بلد.

وبات واضحاً أن الاحتجاجات التي تشتعل ثم تهدأ في الجزائر، حيث درجة عالية وغير مبررة من الفساد وسوء الأداء، يمكن أن تجد طريقاً للتفجر، والأمر ذاته قد ينطبق على المغرب الذي لم ينجح في معالجة أوضاع الفقر المستشرية به، وفي المشرق العربي، بدأت الأمور تأخذ منحى تصاعدياً في اليمن، الذي يغرق في تحديات الفقر والبطالة والرغبات الانفصالية وشرور الإرهاب، كما ظهرت إرهاصات تمرد واسع في العراق الذي يعاني الانقسام والتشظي من جراء خضوعه للاحتلال والتدخلات الإقليمية المغرضة والانقسام الطائفي.

وحتى عندما وصلت شرارة الثورة إلى البحرين، لم يكن الأمر محط دهشة كبيرة، بالنظر إلى تواتر الإشارات التي أمكن من خلالها توقع تصاعد الأحداث على نحو أو آخر، بسبب الاحتقانات الطائفية، وبعض المشكلات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، في ظل أنماط دخل محدودة مقارنة بالمحيط الخليجي، فضلاً عن الأصابع الإيرانية، التي تجد لها في البحرين ساحة تقليدية للتأثير ومرتكزاً للمطامع.

لكن ظهور بعض بوادر الاحتجاج في سلطنة عمان، يمكن أن يعطي للحالة الثورية العربية بعداً جديداً، كما يمكن أن يسقط كل التوقعات السابقة والتحليلات الرائجة والقواعد التي بدت لعقود طويلة ذات وجاهة واعتبار.

ففي نهاية الأسبوع الماضي، كان العشرات من الناشطين العمانيين ينظمون ما قالوا إنه «المسيرة الخضراء السلمية الثانية»، وهي تظاهرة رفعت شعاراً رئيساً مفاده «لا للفساد»، وحرصت على إبراز الولاء للسلطان.

إذا كنت تعرف العمانيين جيداً، فستدرك أن التحول الذي تشهده الدولة العربية اليوم خطير وغير مسبوق، وإذا وصلت الروح الثورية إلى مسقط، حيث أكبر درجة من الشعور العام بالرضا والرغبة بالاستقرار، فإن النظم الحاكمة في العالم العربي بأسرها، ومنها بالطبع منطقة الخليج، ليست بمأمن من تلك الروح.

تبدو الأنظمة العربية كلها، والحكومات الخليجية تحديداً، أمام تحد رئيس يبرز للمرة الأولى منذ أكثر من خمسة عقود، وهو تحد مصيري يتعلق بوجودها ذاته، وقدرتها على الاستمرار.

وإذا سارت تلك الحكومات في المسار ذاته الذي اتخذته أنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، فعليها أن تتوقع المصير نفسه أو التطورات نفسها.

يبقى أن الفرص متاحة أمام جميع النظم الآن لاتخاذ خطوات استباقية وجريئة وطموحة نحو انتقال الدولة العربية من الحكم الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، الذي لا يحتكر السلطة ويسمح بتداولها، والذي يعطي للمواطنين الفرص للتعبير عن مطالبهم والترشح لكل المناصب التنفيذية.

لن يكون بمقدور أي حاكم انتظار العاصفة الثورية، ثم البدء بإخراج مناصريه في تظاهرات مضادة، وقطع الاتصالات، وإسقاط قتلى وجرحى برصاص الشرطة، وصولا إلى إنزال الجيش إلى الشوارع، واتهام الثوار بتنفيذ أجندات أجنبية، لأن تلك الإجراءات أثبتت فشلها، ولم تق أي حكم. لكن الأنظمة الذكية المرنة، سيمكنها تخطي تلك المخاطر، بل سيمكنها أيضاً دخول التاريخ من أفضل أبوابه، إن هي استبقت الثورات المحتومة، بإصلاح متكامل ينقل بلدان وطننا العربي إلى الحداثة من دون هتاف ولا دماء.

وكما ألهم ثوار تونس ومصر ثائرين آخرين في أصقاع العالم العربي، يمكننا أن نطمح إلى وجود حكام عرب يلهمون نظراءهم بالاستجابة الحكيمة لتطور حتمي بدا أن زمنه أتى... وينقلون السلطة بأمانة وشجاعة تدريجياً إلى صاحب السلطة الشرعي... الشعب.

* كاتب مصري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة