فاجأ وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، في الآونة الأخيرة زملاءه الوزراء، والمحللين لشؤون الشرق الأوسط في كل مكان، باقتراح ينص على أن تتخلى إسرائيل عن مركزها كقوة محتلة في قطاع غزة وتسمح لـ"حماس" بإقامة دولة فلسطينية مستقلة هناك.

Ad

رفض الجميع تقريباً اقتراح ليبرمان رفضاً قاطعاً، لأنه صادر برأيهم عن رجل يدعوه منتقدوه في إسرائيل على نحو ساخر بـ"حارس الأمن من كيشينيف" لأنه عمل بهذه الصفة في أحد النوادي الليلية في العاصمة المولدافية قبل هجرته إلى إسرائيل.

اقترح ليبرمان أن تقيم إسرائيل نظاماً حدودياً يلغي سيطرتها الفعلية على الطرق الحيوية الاقتصادية إلى غزة ويلبي في الوقت عينه متطلباتها الأمنية الشرعية. بالكاد يستطيع المرء توقع مثل هذه الفكرة من قائد إسرائيلي تميّز بازدرائه الديمقراطية وكراهيته للعرب سواء كانوا مواطنين إسرائيليين أم تحت الاحتلال الإسرائيلي.

في المقابل، كان لجيفري أرونسون وحده رأي مغاير عن رد الفعل العام هذا على اقتراح ليبرمان. ففي مقال نُشر هنا في المجلة في قسم The Middle East Channel، أيّد مدير مؤسسة السلام في الشرق الأوسط هذا الذي يحظى باحترام كبير فكرة ليبرمان. أشار إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية التزمت في عام 1974 "بإنشاء سلطة الشعب الوطنية المقاتلة المستقلة على كل جزء يُحرر من الأراضي الفلسطينية". بحسب أرونسون، إن كان الإسرائيليون والفلسطينيون عاجزين عن تحقيق هذا الهدف في الضفة الغربية برمتها، "ذلك لا يمنع (إقامة منطقة متاخمة ذات سيطرة فلسطينية سيادية) في غزة، أو أي مكان آخر تتوافر فيه مثل هذه الفرصة". يعتقد بالتالي أن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة في غزة "سيغير حتماً المشهد الدبلوماسي في الداخل الفلسطيني والعالم على نحو إيجابي".

أحترم تحليل أرونسون المتعمق للصراع الإسرائيلي الفلسطيني ولو أنه أخطأ برأيي في تقييمه اقتراح ليبرمان.

ينص ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1974 الذي أشار إليه أرونسون على إنشاء "سلطة وطنية مقاتلة مستقلة". بالنسبة إليّ، فإن كلمة "مقاتلة" تعني سلطة ستواصل الكفاح بشتّى الوسائل لاسترداد الأراضي الفلسطينية أو أقلّه للأراضي كافة ضمن حدود ما قبل عام 1967. ولا شك في أن ذلك يتناقض مع الشرط الذي أرفقه ليبرمان بتخلي إسرائيل عن مركزها كقوة محتلة في غزة، أي "تلبية متطلبات إسرائيل الأمنية الشرعية".     

فضلاً عن ذلك، من غير المرجح البتة أن توافق حركة "حماس" على إنهاء نشاطاتها للحد من الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في مقابل اعتراف إسرائيل باستقلال غزة. كذلك لن تلبي "حماس" "المتطلبات الأمنية" لإسرائيل إن كانت هذه الأخيرة ستعرض الانسحاب من غزة و95 في المئة من أراضي الضفة الغربية. وبالفعل، حتى القيادة الفلسطينية "المعتدلة" في رام الله، التي أبدت استعدادها للنظر في تبادلات متساوية للأراضي على كلا جانبي حدود ما قبل عام 1967، رفضت الاقتراح الإسرائيلي بسيادة فلسطينية على حدود مؤقتة.

يُذكَر أن "حماس" عرضت التخلي عن أعمال العنف ضد إسرائيل لقاء قبول هذه الأخيرة بهدنة طويلة الأمد وسحب قواتها المحتلة إلى حدود ما قبل عام 1967. لكنها لن توافق أبداً على إنهاء "مقاومتها" لقاء تسوية تمنح إسرائيل الحرية لمواصلة تعميق مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية.

تخيلوا لو أن حرب عام 1948 التي شنتها إسرائيل انتهت بطريقة مختلفة، مع سيطرة الفلسطينيين على 99 في المئة من الأراضي الفلسطينية، وانحصار اليهود في قطاع حجمه مواز لقطاع غزة. تخيّلوا أيضاً لو أن الفلسطينيين قدموا لليهود دولةً في ذلك القطاع، إنما بشرط أن يوقفوا الأنشطة كافة التي قد تقوّض "المتطلبات الأمنية" الفلسطينية. هل كان اليهود ليوافقوا على ذلك؟

تقدّم ليبرمان بهذا الاقتراح لأنه يحبذ أي إجراء يخفف برأيه الضغوط الأميركية والدولية على إسرائيل للانسحاب من أكثر بكثير من نصف أراضي الضفة الغربية التي يرغب هو ونتنياهو في إلحاق ما تبقى منها بالدولة اليهودية، وهذا ما قاما به عملياً.

لذلك يبحث ونتنياهو بشكل يائس عن استراتيجيات تصرف نظر الخارج مطولاً بما يكفي ليتمكنا من ترسيخ المشروع الاستيطاني بعمق أكبر وبشكل نهائي على عكس ما سبق. فأي طريقة أفضل لتحقيق ذلك من إشغال المجتمع الدولي (أي جورج ميتشل، ودينيس روس، واللجنة الرباعية الدولية) على مدى الأعوام الخمسة المقبلة بترتيبات للتحضير لاستقلال غزة وإقامة دولة فيها ترضي "متطلبات إسرائيل الأمنية الشرعية"، بينما تستكمل إسرائيل مشروعها "التهويدي" للقدس الشرقية ومعظم الضفة الغربية هذا إن لم يكن كلها.

بالفعل قد تغيّر فكرة ليبرمان المشهد الدبلوماسي في الداخل الفلسطيني والعالم، لكن أخشى أن يتم ذلك بطريقة لا تبقي ولا تذر على أي أمل موجود، لتحل محلها فكرة تدميرية جامحة أخرى للاستحواذ على الأراضي من أجل استعادة "أرض إسرائيل بالكامل". ولاشك أن فكرة ليبرمان تم تجاهل هذه الفكرة تماماً.

وأيضاً لسوء الحظ يتعين على الرئيس أوباما أن يتخلى عن "التدرجية السياسة" التي سمحت لإسرائيل والفلسطينيين بإطالة المعاناة المسمّاة "عملية السلام" التي حولت الهدف بإقامة دولتين إلى شعار فارغ، وأن يعرض في المقابل على كلا الطرفين إطار اتفاق يبدي هو والمجتمع الدولي استعداداً لفرضه... لكن تلك الفكرة التي لم تُعر أي اهتمام حتى الساعة على وشك أن تبطل.   

* Henry Siegman ، مشروع الولايات المتحدة/ الشرق الأوسط ومستشار مركز بناء السلام النرويجي في أوسلو