في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم كنا صبية في المرحلة المتوسطة، مازلت أذكر ذلك الوقت المجتزأ من فترة الامتحانات، نخرج للهو، والقفز من شارع إلى آخر، قبل أن ينتهي بنا المطاف إلى مكتبة جرير، المفتتحة حديثاً في حينها في أحد شوارع حي الملز، بمدينة الرياض، ندلف بكل براءة الصغار إلى الطابق العلوي، ونتصفّح الكتب المعروضة دون أن نشتريها بالطبع!
كانت هذه أولى خطواتي في اكتشاف قصيدة الحداثة في المملكة العربية السعودية، وأسماء بعض الشعراء، في مقدمتهم الشاعر الراحل محمد الثبيتي، وديوانه الشهير «تهجيت حلماً... تهجيت وهماً»، إن لم تخني الذاكرة. كنت أقرأ قصائد هذا الديوان بشيء كبير من الدهشة والاستغراب، فاللغة الحداثية المكثفة تبدو أصعب ما تكون على طالب في الصف الثامن أو التاسع، مازالت ذاكرته تُهجّن أو تُطبع غصباً بالقصائد العمودية، وشعر عصر بني أمية. كانت قصائد الثبيتي ورفاقه مثل علي الدميني وغيره صعبة المنال، وبالطبع لم نكن نتابع سجال الحداثة الدائر في الصحافة الأدبية، والمرحلة العمرية لم تسمح لنا بتقصي عواقبها، أو استكشاف ما يدور في الخباء بشأنها.طُبع الثبيتي في ذهني منذ ذلك التاريخ، وتدور الأيام دورتها ليصبح علماً بارزاً في نهضة الحداثة الثمانينية في العربية السعودية، يتعرّض للانتقاد، ويُحرم من جائزة النادي الأدبي، ويموت فقيراً، بعد أن يُنهك المرض جسده. أجل، مات فقيراً هذا الشاعر الذي أثرى المشهد الثقافي في بلده بالعديد من القصائد والدواوين.لست أدري لمَ أستذكر الشاعر المصري أمل دنقل، وأنا أقرأ قصة حياة ورحيل محمد الثبيتي!، ثمة رابط خفي بين هذين الشاعرين، فكلاهما مات فقيراً، مهملاً من جميع صنوف الرعاية التي تقدمها المؤسسات الثقافية، ليس ثمة سوى هؤلاء الأصدقاء الذين يتحرّكون هنا وهناك، للكتابة عن الشاعر أو الاحتفاء به، وتقديمه في الصحافة الأدبية، اكتسب أمل دنقل ذلك البُعد القومي العربي من خلال قصيدته الشهيرة «لا تصالح»، وصنع الثبيتي لنفسه وطناً من الحداثة، وواجه العاصفة بمفرده واقفاً، ليغدو أحد أعلام الحداثة في الجزيرة العربية.كتب الزميل أحمد زين، نقلاً عن الشاعر الكبير محمد العلي:«الراحل حورب في حياته، لم يكن يملك شقة، ولم يكن يملك سيارة، ودائماً مدين، رحل وهو مدين، وعائلته على كفّ الرياح».يُذكر أن الشاعر الراحل فاز بإحدى جوائز مؤسسة البابطين للإبداع الشعري عن قصيدته «موقف الرمال... موقف الجناس» بعد أن استحقها الشاعر بجدارة، فالقصيدة فلسفة شعرية قائمة بذاتها، وتُحدث تداخلاً محبباً مع العصر العباسي، فاللعب بالمفردات المتجانسة يأتي بطريقة محببة غير مصطنعة، والقصيدة تتوالد مفردة إثر أخرى، حتى لتكبر كالأنفاس المتصاعدة، وتنتهي إلى خاتمتها، حين نقرأها مرة أخرى سنتذكر أبا تمام ومسلم بن الوليد، فالقصيدة ابنة عصرها، وتعود بنا إلى عصور الازدهار. وأتذكر في هذا الصدد الخطوة الحسنة من نادي حائل الأدبي، حين سارع إلى طباعة الأعمال الكاملة للشاعر قبل رحيله، لعل ذلك يساعد الباحثين والدارسين على استكشاف عوالم هذا الشاعر، ومنحه حقه من الدراسة وإن بعد رحيله.
توابل - ثقافات
مات فقيرا
23-01-2011