شكرا لكل من تواصل معي حول مقالي عن بناء الكنيسة الكاثوليكية، شكرا للجميع، دون استثناء، حتى لأولئك الذين تواصلوا بأسلوب ونفسية غريبين، وكأنهم يدعون مرتدا للعودة إلى الإسلام، لأني استطعت إرغام نفسي على تفهم الروح الخيِّرة التي انطلقوا منها، وأعود اليوم للموضوع لأجل توضيح بعض النقاط.
بطبيعة الحال، ما كنت سأكتب مقالي الذي دعوت فيه للسماح ببناء كنيسة الكاثوليك دون أن أكون قد اطلعت على مجموعة من الفتاوى التي تتناول هذا الشأن، ودون أن أكون قد استأنست بآراء المختصين، وذلك من باب التحضير اللازم لكتابة الموضوع، لذلك ففتوى وزارة الأوقاف التي وصلتني من البعض، لم تكن شيئا مفاجئا أو جديدا، لأني كنت قد اطلعت عليها.إلا أنه ليس في نيتي اليوم استعراض الفتاوى المختلفة حول المسألة، أو الذهاب إلى عرض الرأي الشرعي الذي ملت إليه، فليس هذا مقام ذلك، إنما المقصد تسليط الضوء على الطريقة التي جرى بها تداول الموضوع.أولا، إن هذه المسألة، أعني مسألة جواز بناء الكنيسة من عدمه، هي مسألة خلافية في نهاية المطاف، وتعدد الفتاوى والاجتهادات في هذا الشأن لدليل على ذلك، وبالتالي فمن غير الصحيح أو المقبول، أن يتعامل البعض، سواء ممن تواصلوا معي شخصيا إثر مقالي، أو من كتبوا عن المسألة في الصحافة، بأسلوب التخوين، وصولا إلى التبديع أو التكفير، مع الآخر.ثانيا، لا يصح الاستناد إلى فتوى وزارة الأوقاف باعتبارها الحجة الأخيرة التي لا كلام بعدها، بل لا يصح الاستناد إلى أي فتوى صادرة من أي جهة كانت، داخلية أو خارجية، باعتبارها فتوى نهائية، فالفتاوى في نهاية المطاف اجتهادات بشر معرضين للخطأ والصواب، ومثلما أن لوزارة الأوقاف فتواها، فهناك فتاوى أخرى لا تتوافق وإياها. وأما القول بأننا في الكويت ملتزمون بفتوى وزارة الأوقاف باعتبارها الجهة الرسمية، فهذا مردود عليه من ناحيتين: الناحية الأولى، أن الالتزام المقصود هنا التزام قانوني، لا شرعي، بمعنى أننا سنلتزم بالتطبيق باعتبار أنها فتوى الجهة المعينة من ولي الأمر (الحكومة)، لكن هذا لا يعني أن نكون مؤمنين بأنها فتوى صحيحة لأنها كما أسلفت محض اجتهاد بشري معرض للنقص. وأما الناحية الثانية، فإن الالتزام القانوني بفتاوى وزارة الأوقاف قد صار موضع نظر أيضا، فولي الأمر (الحكومة)، والمحكمة الدستورية أيضا، قد سبق لهم تجاهل فتاوى هذه الجهة في قضايا سابقة، لا داعي لذكرها، وبالتالي سقطت أو لنقل تخفيفا قد ضعفت الإلزامية القانونية التلقائية لهذه الجهة.ثالثا، من يطلع على الفتاوى التي تناولت مسألة بناء الكنائس، يجد أنها ربطت الأمر غالبا بمسألة دار الإسلام، وهي التي تحكم وفقا للشريعة الإسلامية، ودار الكفر وهي التي لا تحكم بالإسلام، وهذان المصطلحان الفقهيان مصطلحان قديمان، تم بناؤهما على واقع لم يكن فيه إلا دار إسلام ودار كفر، وأما اليوم فنحن أمام واقع فيه متغيرات جديدة، أهمها أن أغلب الدول المسلمة لا تحكم بالشريعة، بل بدساتير وضعية، وهي حالة لم تكن موجودة آنذاك، وبالتالي فمن غير المعقول، منطقا وموضوعا، أن تنزل ذات الأحكام القديمة على هذا الواقع دون نظر لهذا المتغير الجذري.بل من السخيف أن نتخيل أن ذات أحكام دار الإسلام ستنطبق اليوم على أي دولة مسلمة، هكذا دون تكييف ومراجعة، مع أن هذه الدول قد انضوت تحت مظلات منظمات عالمية جعلتها في مقام متساو مع غيرها من الدول غير المسلمة، وارتبطت بمعاهدات واتفاقيات ونظم دولية مع كل دول العالم الأخرى، وانفتحت حدودها، طوعا وكرها، للمدنيين والعسكريين من الأجانب، بل صارت غير قادرة على العيش أو البقاء دون الارتباط تجاريا وعلميا واتصالاتيا وطبيا وغذائيا، وغير ذلك كثير جدا، بهذه الدول. بل إن بعض «دور الإسلام»، هذا إن اعتبرنا جدلا أيا من الدول المسلمة كذلك، قد صارت ترتبط بصلات وثيقة مع بعض «دور الكفر»، أكثر من ارتباطها مع بقية دور الإسلام، وصار دخول رعايا «دور الكفر» إلى بعض «دور الإسلام»، في كثير من الحالات، أكثر سهولة وانسيابية، من دخول المسلمين من «دور الإسلام» الأخرى إليها. هذا الواقع كثير الألوان والظلال، وهو غير الموجود سابقا عند ظهور مصطلحي دار الإسلام ودار الكفر، سيحتاج اليوم ولا شك إلى إعادة نظر بعقلية أكثر انفتاحا.رابعا، إن أغلب الدول المسلمة اليوم، يحمل جنسياتها مواطنون كاملو الحقوق والواجبات، ممن لا يدينون بالإسلام، ووفقا لدساتير هذه الدول فإن لهؤلاء حقوقا دينية، تلتزم دولهم بتلبيتها، وأما فكرة أن يتم التعامل مع هؤلاء وفقا لأحكام أهل الذمة، فهي فكرة خارجة عن الموضوعية، بل المنطق.أرجو أن أكون قد سلطت بعض الضوء على المنطلقات التي بنيت عليها رأيي الذي جاء في مقالي السابق حول هذا الموضوع، وهي التي من حق أي قارئ أن يرفضها جملة وتفصيلا، على أن يبقى الأمر في النهاية في دائرة الرأي والرأي الآخر، لا دائرة الإسلام والكفر!
مقالات
... عن الكنيسة مجدداً
14-11-2010