كتبتُ مرات عن نص جلجامش في الترجمات الإنكليزية، وفي الموسيقى العالمية. وكان يحلو لي أن أُقارن بينه، كنص بالغ القدم، وبين نصوص شعرية كُتبت بعده بآلاف السنوات. ويدهشني الفارقُ دائماً، من حيث المحاور الجدية الكبرى التي ينطوي عليها، مقارنة بالملاحم والنصوص الشعرية الأخرى.

Ad

من أقدم النصوص التي يعتز بها الأدب الإنكليزي قصيدة Beowulf، تعود إلى القرن الثامن الميلادي، والأخرى التي لا تقل شهرة هي السير غويْن والفارس الأخضر، كُتبت بعدها بخمسة قرون. وكلاهما ينتميان إلى القرون الوسطى المبكرة. ولقد أعادت دار «فيبر» إصدار القصيدة الحكائية من جديد.

في مرحلة الشاعر الإنكليزي تشوسر (1343-1400)، وفي الشمال، بعيداً عن بلاطه الملكي في لندن، ترك شاعر مجهول نصاً شعرياً حكائياً بالغ الشهرة تحت عنوان «السير غوَيْن والفارس الأخضر»Sir Gawain and The Green night. النص مكتوب بلغة القرون الوسطى العصية إلا على المتخصصين، ولكنه ينطوي على غزارة شعرية أغوت أكثر من شاعر حديث ومعاصر على محاولة استعادة النص باللغة الشعرية الحديثة أو المعاصرة. بضع محاولات اعتمدت الترجمة النثرية، وأكثرها اعتمدت الشعر.

تقول الحكاية إن آرثر الشاب في بلاطه الملكي كان يحتفي بفرسانه في أعياد رأس السنة، ولأنه يتعجل المفاجآت المثيرة في إثراء نزعة الفارس فيه، دخل عليهم فارس أخضر اللون في البشرة واللباس والعدة، هائلاً بحجمه، غريباً بتحديه، في أن يتبادل ضربةَ فأس واحدة يبادرها أحدهم، وسيردها هو بعد عام. يندفع الملك آرثر، ولكن ابن أخيه السير غوَيْن يندفع دونه، وبضربة واحدة يفصل رأس الفارس الأخضر، الذي يغادرهم برضا القانع، وهو يحمل رأسه بيده بوعد أن يلتقي غويْن في موطن إقامته الغامض بعد عام. وفي الموعد المقرر يغادر غوَيْن بحثاً عن الفارس المجهول في المكان المجهول. يصل وسط تجواله قصراً يستضيفه سيد غاية في النبل والكرم فيه. في الصباح يستبقيه السيد كي يستريح، ويخرج مع فرسانه إلى صيد الحيوان. في أيام ثلاثة متواصلة كانت زوجة السيد تزور غوَين في غرفته وتحاول إغواءه بقبلة في الليلة الأولى، بقبلتين في الثانية، وثلاث في الثالثة، وهو يتمنّع أمانةً. وفي ساعة المغادرة تمنحه هدية على شكل حزام أخضر ادّعت أنه حزام الأمان من الموت. وإذ يهتدي غوَين، تحت رعاية أحد الأدلاء، إلى مكان الفارس الأخضر يخضع لما اتفق عليه من استكانة لضربة الفأس، إلا أن الفارس الأخضر أبدى رأفة، ولم يخلف في جسد غوين إلا جرحاً طفيفاً. وهنا يعترف له بأن حكايته معه كانت مقصودة من أولها إلى آخرها. فهو السيد المضيّف، وزوجته لم تفعل الذي فعلته إلا اختباراً. والحزام الأخضر من زوجته هو حزامه الخاص، ولا مناعة سحرية فيه، بل هو علامة ترمز للخطيئة، التي لا منجى للكائن الإنساني منها. بعدها يعود غوَين إلى مائدة آرثر المستديرة ليحكي للفرسان حكايته، وليقنع هؤلاء أن يرتدوا معه الحزام الأخضر، أسوة بالإنسان الخاطئ حيث يكون.

الحكاية الشعرية، كما هو واضح، تعتمد منحى دينياً مسيحياً للأخلاق، ولكنها تعتمد السحر والأسطورة أيضاً، شأن معظم الحكايات عن الملك آرثر وفرسان مائدته المستديرة، على أن شاعرها يستهل الحكاية بالعودة إلى حصار طروادة، وكيف أسس روميولوس روما، وتيسيوس توسكاني، وبروتوس بريطانيا. كُتبت القصيدة الأسطورية بين الأعوام 1375-1400، ولم تُبعث إلا في مرحلة متأخرة من عهد الملكة فيكتوريا. نصها الأصل في طبعة Penguin عصيّ بين يدي، ولكن الترجمات التالية أكثر من يسيرة، وأيسرها الترجمة الأخيرة التي أصدرتها دار «فيبر»، والتي قام بها الشاعر الناشط سيمون آرميتاج. لقد انتفع هذا الشاعر الشاب من أرضية لهجته الشمالية، وحسّيتها. من وحشية الطبيعة البرية القلب وانعكاساتها على الطبيعة البشرية. من طبيعة هاجسه اللغوي الشعري، الذي يعتمد الإيصات واللعب اللغوي. من أمهر مظاهر هذه الإصاتة استخدام ما يسمى بالجناس الاستهلالي (تجانس الحروف الأولى للكلمات)، حيثُ تبدو الدلالة رهينة الصوت الموسيقي. وبسبب ذلك تفترض القصيدة القراءة المصوّتة، لا الصامتة. القصيدة ترصد بحسية عالية مسرات بلاط الملك آرثر بين السيدات وفاخر الطعام. وترصد بصورة أكثر تفصيلاً رحلات صيد الحيوان. وهي تذكر بطرديّات الشعر العربي، خصوصاً طرديات أبي نواس وأراجيزه.