يبدو أن معين العمل الإرهابي لن ينضب قريباً رغم كل الملاحقات الأمنية الناجحة، إذ أعلنت وزارة الداخلية السعودية أخيراً تفكيك 19 خلية إرهابية عدد أفرادها 149 شخصاً، بينهما امرأة، منهم 124 سعودياً أغلبيتهم من صغار السن بينما الـ25 الآخرون من العرب والأفارقة، وكانت الخلايا التي تم تفكيكها خلال الأشهر الثمانية الماضية تسعى إلى تحقيق 4 أهداف: نشر الفكر التكفيري، وتسهيل سفر المغرر بهم إلى المناطق المضطربة، وتنفيذ مخططات إجرامية تهدف إلى نشر الفوضى والإخلال بالأمن والقيام باغتيالات في صفوف مسؤولين ورجال أمن وإعلاميين، وجمع الأموال لدعم التنظيم الضال في الداخل والخارج، وهذه الخلايا مرتبطة بتنظيم "القاعدة" في اليمن وأفغانستان والصومال.

Ad

السؤال المطروح باستمرار وإلحاح في الساحة ولا نجد له جواباً شافياً، هو: لماذا يستمر الإرهاب وينتعش ويجذب إلى صفوفه زهرة شباب المسلمين رغم كل الملاحقات والجهود المبذولة دولياً وعربياً ضده؟!

والإجابة ببساطة: لأننا حتى الآن لم نستطع سحب "البساط الديني والأخلاقي والذرائعي" من تحت أقدام "القاعديين"- كما يقول الكاتب محمد جميح- علينا أن نتذكر أن "الخوارج" أول تنظيم متطرف في تاريخنا توسل بالدين والسلاح في نشر طروحاته، واستمر مصدر تهديد للأمن مئات السنين على امتداد الدولتين الأموية والعباسية إلى أن اضطر للفرار إلى الأقاصي والأطراف والأباعد، وانزوى فكرهم وأصبح هامشياً في مجرى الحياة العام في المجتمعات الإسلامية.

وبطبيعة الحال لا يمكن القضاء على الفكر الإرهابي مهما كان مدمراً وبشعاً، لكن بالإمكان تهميشه ومحاصرته ووقاية الشباب من آفاته إذا أحسنا تشخيصة وتحكمنا بروافده ومنابعه وضبطنا منابره، ولعلنا نتذكر أن الأمير نايف- النائب الثاني ووزير الداخلية السعودي- صرح في يوليو الماضي بأن السعودية استطاعت إحباط أكثر من 220 محاولة إرهابية، وأبدى أسفه لوصول فكر الإرهاب حتى لأصحاب المؤهلات العلمية والفكر العالي، ولأن من يسمون بـ"الخوارج" تمكنوا من اختراق شرائح ذات مستوى تعليمي عال خلال السنوات الأخيرة، مؤكداً في أثناء حفل تخرج دفعة من طلاب الدراسات العليا بجامعة نايف، أن الأغلبية من جملة تلك الشهادات هم سعوديون و"شباب غرر بهم ودفعوا إلى مجال القتل والتشريد". ولعل هذا ما دفع الكاتب السعودي جميل الذيابي أن يقول: بعد إعلان وزارة الداخلية البيان الأخير، تلقيت اتصالات من قنوات عديدة، بينها من سأل: كيف تفسر وجود العدد الكبير من السعوديين ضمن الخلايا الإرهابية، حتى باتوا قاسماً مشتركاً ووقوداً حاضراً للمخططات الإرهابية؟! في رأي الكاتب أن السعودية بذلت جهوداً جبارة منذ أحداث 11 سبتمبر لحماية الشباب السعودي من أفكار الإرهاب، كما تبذل جهوداً مستمرة لإعادة تأهيل "المغرر بهم" وقد تفاعل مع ذلك العلماء والكتاب ورجال الإعلام، ويختم الكاتب السعودي، متسائلاً محتاراً: أليس محيراً بعد كل هذا الجهد الكبير والتوعية المستمرة أن نسمع عن مخططات تخريبية جديدة؟! دعونا نطرح التساؤل مرة أخرى: لماذا يستمر الإرهاب؟! ببساطة، لأن "التشخيص" خاطئ! في الصومال قامت حركة "الشباب المجاهدين" بتقديم بنادق كلاشينكوف وذخائر وقنابل يدوية وقذائف مضادة للدبابات كجوائز للفائزين في مسابقات حفظ القرآن الكريم والعلوم الشرعية، ونحن مازلنا مصممين على ترديد القول إن هؤلاء الإرهابيين، مجرد شباب "مغرر بهم"، هذا هو أساس التشخيص الخاطئ، كيف أمكن التغرير بشباب متعلم وناضج وعلى وعي وإدراك كاملين، يحسن التعامل مع المواقع الإلكترونية والأجهزة الحديثة وعلى اطلاع بما يحصل في الساحة المجتمعية ويعلم تماماً أن مصيره الموت أو الاعتقال إذا وقع في أيدي الأجهزة الأمنية وبعضهم من حملة الشهادات العليا؟!

"التغرير" يمكن حصوله وتصوره ممن هم دون سن الرشد، ولكن هؤلاء الذين نطلق عليهم وصف "المغرر بهم" كلهم تجاوزوا سن الرشد، فمن غرر بهم؟ وكيف تم ذلك؟ وأين دور مؤسسات الدعوة والتثقيف الديني في تحصين الشباب ضد آفات التطرف؟ "هيلة القصير" أخطر امرأة انضمت إلى "القاعدة" في السعودية، كانت مدرسة لطالبات، ولنا أن نتخيل كم هيلة أخرى تخرجت على يديها فكرياً على الأقل، وكم هيلة غيرها لم تكتشف بعد، طبقاً لحمود أبوطالب؟!

إن نقطة البداية الموضوعية لمعالجة أي مشكلة، الاعتراف بها- أولاً- ثم حسن تشخيصها- ثانياً- ثم وضع الحلول الناجعة- ثالثاً- فالعمل الإرهابي، نبت بيئتنا ومجتمعاتنا، له بناء فكري معروف، ومفاهيم دينية واضحة وإن كانت مغلوطة في نظرنا لكنها صحيحة في نظر أصحابها المتطرفين، والإرهابيون أبناء بررة لخطاب ثقافي مشحون بكراهية عميقة للقيم المعاصرة التي تسود مجتمعاتنا ولكل نظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والإرهابيون هم نتاج هذا الخطاب المشحون الذي تسيّد الساحة على امتداد 3 عقود، هؤلاء ليسوا حمقى أو جهلة أو مغرر بهم كما نقول، هم تربوا بين أحضاننا ورضعوا من ثقافتنا وتعلموا في رحاب مدارسنا ومنابرنا الدينية، وكان الهدف الرئيس من هذا الخطاب الإيديولوجي المشحون، الحط من ثقافة وحضارة الآخر المتفوق، والترويج لعدوانيتها وماديتها وإباحيتها، بهدف تنفير شبابنا منها، وتحصينهم ثقافياً ودينياً ضد آفاتها، في مقابل تصوير ماضي المسلمين، مجيداً زاهراً قوياً، عبر التركيز والانتقاء على اللحظات المضيئة في تاريخنا وتجاهل ألف عام من الظلام والحروب والدماء والفتن والجهالات والتخلف والاستبداد والبطش بكرامة الإنسان وإذلاله، ظناً من الذين وضعوا المناهج وأشرفوا على تغذية النشء بها وترسيخها في نفوسهم، أن ازدراء حضارة الآخرين والاستخفاف بثقافتهم وشحن النفوس بكراهيتهم، فيها "الحصانة" المنشودة لشبابنا، وثبت اليوم في ظل المعاناة التي تمر بها مجتمعاتنا من جراء تصاعد وطأة الإرهاب واستنزاف الموارد وهدر طاقات شبابنا- وهم أعظم مواردنا- في مشاريع عدمية، أن كل ما خططنا لتفاديه، وكل ما عملناه من أجل حماية شبابنا عبر تقوية مناعتهم، مجرد "أوهام" ندفع ثمنها الباهظ اليوم.

كان علي حرب- المفكر اللبناني- محقاً عندما قال: ما ندافع عنه أو نخشى عليه أو نعلي من شأنه، قد يكون هو مصدر الفشل والإخفاق، ويضيف: عندما نناضل طويلاً دفاعاً عن قضية ثم نتراجع إلى الوراء، يصبح الممكن- معرفياً وعملياً- إعادة النظر بمرجعياتنا الفكرية ووسائلنا النضالية من أجل ابتكار أفكار جديدة ومهام جديدة. إن أزمة استمرار الإرهاب، هي أزمة فكر مريض لم نحسن تشخيصه منذ البداية، حاولنا إنكاره- أولاً- وقلنا إنه دخيل ومن صنيعة الآخر أو هو فيروس عابر أصيب بعض شبابنا به، واتهمنا الآخرين، وعندما اعترف شبابنا بفعلتهم- تباهياً وفخراً- قمنا بتبريره وتعليله بالعوامل الخارجية- ثانياً- ولم نقم بمحاولة جادة لمراجعة أنفسنا ومناهجنا ومنابرنا كما أمرنا قرآننا العظيم "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" إذا أردنا تهميش الفكر الإرهابي وحصره في الزوايا والأطراف أو اقتلاع جذوره وتجفيف منابعه- بحسب بيان وزارة الداخلية السعودية- فإن علينا أولاً الإقلاع عن ترديد وصف "المغرر بهم"، الذي يوحي بالتماس معاذير لهؤلاء المنحرفين، ثم- ثانياً- علينا: إعلان قطيعة معرفية مع كل موروث ثقافي يتنافى والمبادئ العليا مما هو اجتهاد بشري عمل به الأسلاف، مهما كانت نظرتنا التبجيلية لهم ومهما علت مكانة القائمين به، كما أن علينا- ثالثاً- دعم وتشجيع كل ثقافة تحتضن الإنسان، لأنه إنسان، بغض النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلم، سنياً أو شعياً أو سلفياً أو متصوفاً أو أشعرياً... هكذا فعلت ألمانيا واليابان عقب الهزيمة.

*كاتب قطري