ثورة المعلومات وانهيار الإيديولوجيات

نشر في 16-03-2011
آخر تحديث 16-03-2011 | 00:00
 د. شاكر النابلسي - 1 -

كنا نحسب أن العرب لم يستفيدوا بما فيه الكفاية من ثورة المعلومات، التي بدأت تقريباً في التسعينيات من القرن الماضي، وأن ثورة المعلومات ستمرُّ في الفضاء العربي، كما مرَّت ثورات عدة سياسية وعلمية وصناعية وزراعية سابقة، دون أن يتمكن العرب من الاستفادة منها الاستفادة الكافية، باعتبار أن منجزات هذه الثورات، ليست ملكاً للذين أحدثوها فقط، ولكنها مُلكٌ لجميع أفراد البشرية، باعتبار أن الذين أنجزوها، لم يلبسوها الثوب الإيديولوجي الديني أو القومي أو السياسي، أو أي ثوب آخر، إنما تركوها خالصة لوجه المعرفة فقط، ومن هنا تأتي أهمية هذه الثورات المختلفة.

- 2 -

ما الإيديولوجيا؟ ولماذا انهارت في مطلع القرن الحادي والعشرين أمام ثورة المعلومات؟

الإيديولوجيا هي العقيدة المحددة، التي يحاول المفكر، أو السياسي، أو الداعية، أو الناشط، إبرازها وتأكيدها وفرضها- بالقوة في معظم الأحيان- وخلطها بالماء، أو الشراب، وسقيها للآخرين، وقد رأينا نماذج كثيرة من هذه الخطابات في عالمنا العربي، على المستوى الفكري، والسياسي، والديني، واستعملت بعض الأنظمة العربية نماذج كثيرة من المفكرين، والسياسيين، والناشطين، والدعاة، لتغليف خطاباتهم بالغلاف الإيديولوجي المطلوب، ولكن هذه الخطابات أثبتت في النهاية، أنها لا تستقيم، ولا تصمد أمام المتغيرات السريعة والجديدة، التي تُحدثها ثورة المعلومات والعلوم الحديثة، التي تتفجر كل يوم، وتقدم لنا الجديد في مختلف المجالات.

- 3 -

لقد كان نداء البعض لنا، بأن نكفَّ عن أن نظل «أمة الأموات السائرة» نداءً محقاً، وفي محله؛ علماً أن بعضنا قد استاء منه في حينه، ورأى في هذا النداء انتقاصاً من هويتنا، وإنكاراً لتراثنا، ولكن عندما اكتشفنا أن هذا النداء يعني استنهاض الأمة، لكي تصبح «أمة النقد» لا «أمة السرد» ظهرت لنا الحقيقة المُرَّة التي كنا نخفيها زمناً طويلاً، وكان إخفاؤها سبب تراجعنا وتخلفنا عن بقية شعوب العالم، حتى شعوب أميركا اللاتينية، التي تخلَّص معظمها من الدكتاتوريات السياسية والثقافية والاجتماعية، وأخذ بناصية العلم الحديث، في شؤونه كافة، وبدأ يخطو خطوات واسعة نحو الحياة الجديدة، التي يمثلها القرن الحادي والعشرون بكل تحدياته وإنجازاته الأولية. وقد قرأنا في الأدب الروائي لأميركا اللاتينية الحديث، كيف تم كل ذلك، وتحقق.

- 4 -

إن أخطر ما يواجه الأمتين العربية والإسلامية الآن، هو التفسير الأحادي للظواهر كافة، بل الأكثر خطورة هو قتل، أو منع، أو مصادرة الرأي الآخر، أو التفسير الآخر في السياسة، والدين، والاجتماع، والاقتصاد، وكنتُ قبل أيام أقرأ في مذكرات القيادي الإخواني عبدالمنعم أبوالفتوح (شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر 1970- 1984) والذي قدم له بمقدمة تبجيلية المستشار طارق البشري، الذي رأس في الأمس لجنة تعديل الدستور المصري، ولفت نظري، كيف أن جماعة «الإخوان المسلمين»، طيلة عملها الديني والسياسي منذ تأسيسها عام 1928 حتى 1984 لم تقدم لمصر وللعرب وللمسلمين ما ينفعهم، ويُصلح من أمرهم، وهم عجزوا تماماً عن تغيير نهج الدكتاتورية العسكرية المصرية من 1952، وحاولوا الوصول إلى السلطة عن طريق العنف بمحاولة اغتيال عبدالناصر في منشية الإسكندرية 1954، وهم اختطفوا من الشباب المصري في 25 يناير 2011 ثورتهم، وجيّروا معظم إنجازاتها لمصلحتهم، وهناك في مصر الآن من يطلق على هذه الثورة «ثورة الإخوان»، وأن همَّ «الإخوان» الأكبر في السبعينيات، وعندما كان أبو الفتوح طالب طب في القصر العيني، فصل الطلبة عن الطالبات، وإرغام الطالبات على ارتداء الحجاب ثم النقاب. يقول أبو الفتوح في مذكراته: «أصبحنا أكثر تطرفاً بالدعوة لارتداء النقاب، وألا يظهر من الطالبة شيئاً، وانتشر النقاب بشكل كبير في 1975، بما استفز الرئيس السادات، وأطلق عليه «الخيمة» (المذكرات، ص 71).

كذلك يقول أبو الفتوح: «إن إقامة الدولة في نظرنا، كان يعني عودة الخلافة الإسلامية، من منطلق عقائدي بحت، وليس من منطلق سياسي، وتخضع لحسابات عقائدية وأخلاقية، وليست لسنن وضوابط واقعية، وكانت دولتنا (الحلم) دولة الشريعة التي تقيم الحدود وتجري العقاب، دون تردد أو نظر لأي خلاف أو مقاربة فقهية معتبرة». (ص70).

وهذا اعتراف صريح من قيادي بارز في «الإخوان المسلمين»، بأن «الإخوان» يفكرون ويتصرفون من جانب واحد، دون أي اعتبار للآراء الأخرى. وقد أدى هذا الانشغال والانهماك بالقشور الاجتماعية المتشددة إلى إهمال الطلبة للتحصيل العلمي، لاسيما أن معظم من يتحدث عنهم أبو الفتوح، كانوا في كلية الطب التي تستدعي جهداً دراسياً كثيفاً. يقول أبو الفتوح: «لم يكن الاهتمام بالتفوق العلمي من اهتمامات معظم أبناء الجماعة بسبب انشغالهم بالنشاط، وعدم حثنا على الانتباه له». (ص71)

- 5 -

لو طرح الإخوان المسلمون مسائل الأخلاق والدولة والحكم والاقتصاد وخلاف ذلك من وجهة نظر واسعة، وأخذ آراء المدارس الفقهية الأخرى بذلك، وضمها إلى خطابهم العام، لكانوا أفادوا الإسلام والحكم العربي إفادة كبيرة، فالعمل الثقافي الحضاري الباقي والمؤثر، هو الذي يضم كل الأطر الثقافية فيه، دون تعصب، والتقيد بإطار واحد فقط، والمهم في العمل السياسي والثقافي، إدراك وإبراز الآليات العميقة التي أنتجت الأفكار، وهو ما نطلق عليه الأنثروبولوجيا التاريخية، التي تعني الحفر والتفكيك للآليات العميقة، التي تنتج الأفكار المختلفة.

- 6 -

وكما نشاهد الآن، فإن السلطة السياسية العربية لم تشفع ولم تنفع، وبكل ما أوتيت من قوة وصولجان، في فرض الرأي الأحادي، في زمن ثورة المعلومات وانهيار الإيديولوجيات في الغرب والشرق الأوروبيين في نهاية القرن العشرين، وأصبحت المعرفة- منذ ذلك الوقت- طائراً محلقاً بجناحين: الأول الإنترنت، والثاني الإنجازات العلمية المتلاحقة والمذهلة، ولم يعد طائر المعرفة سجيناً في أقفاص الزينة داخل الحجرات!

* كاتب أردني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top