"عقول مرهفة للغاية ولكنها عامرة بأفكار بالغة السوء"، بهذه الكلمات وصف الراحل دانييل باتريك موينيهان- عضو مجلس الشيوخ الأميركي الأسبق، ولعله واحد من أعظم العقول التي دخلت إلى عالم السياسة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية- الهند، بينما كان يشغل منصب سفير الولايات المتحدة إلى الهند في سبعينيات القرن العشرين. والواقع أن هذا الوصف اللاذع لبلدي ربما يشكل أيضاً وصفاً جيداً للغاية الأحداث المحرجة المؤسفة- التي أصبحت بلا نهاية- بين قادة إيران والولايات المتحدة.

Ad

مع بداية جولة جديدة من المفاوضات مع إيران فإن التوصل إلى وسيلة لتحريك العلاقات الإيرانية الأميركية إلى ما هو أبعد من الماضي المشحون بالخلافات يشكل أمراً بالغ الإلحاح. ففي كلا البلدين عملت الشكوك العميقة المتبادلة على تسميم العلاقات لثلاثة عقود من الزمان، ولا شك أن المفاوضات في مثل هذا الجو محكوم عليها بالفشل لا محالة.

إن أميركا تتقبل النظام الحالي في إيران على مضض، وقادة إيران يلعنون الولايات المتحدة وكأن الملايين الذين قتلوا في ثمانينيات القرن العشرين في الحرب العراقية الإيرانية (التي دعمت فيها الولايات المتحدة جيش صدّام حسين الغازي) ماتوا بالأمس فقط. وما دام الطرفان يسمحان باستمرار هذه الظلال الداكنة في تعكير العلاقات بينهما، فإن "إعادة ضبط وتشغيل العلاقات" بين البلدين، على غرار العلاقات الروسية الأميركية، سوف تصبح في حكم المستحيل.

إن قائمة الخلافات بين البلدين لا نهاية لها تقريبا، ولكن خطة إيران لتخصيب اليورانيوم تأتي الآن على رأس هذه القائمة، فالإيرانيون يصرون على احتياجهم إلى الطاقة النووية لتوليد الطاقة الكهربائية. بيد أن الولايات المتحدة تزعم أن السرية التي يحرص عليها قادة إيران تنم عن رغبة النظام الإيراني في إنتاج الأسلحة النووية.

ومن غير المستغرب في ضوء الشكوك الأميركية العميقة أن يكون الاتفاق الذي تم التوصل إليه في وقت سابق من هذا العام بين إيران وتركيا والبرازيل، بالسماح بتصدير اليورانيوم المنخفض التخصيب من إيران في مقابل قضبان الوقود النووي، "غير مقبول" في نظر الولايات المتحدة. والواقع أن الولايات المتحدة، بعد سنوات من العقوبات والتهديدات والمفاوضات، ثم المزيد من العقوبات والتهديدات، لا تزال غير واضحة بشأن البرنامج النووي المحدد الذي قد تقبله.

ماذا تريد الولايات المتحدة إذن؟ أهي العقوبات القاسية المعجزة، كما قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ذات مرة ولكنها سارعت إلى التراجع عن هذا التعليق المرتجل؟ ولكن مثل هذا الحذر لا يكفي لتقييد أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، مثل ليندسي غراهام عن ولاية كارولينا الجنوبية التي تقول إن "شر" إيران النووية من شأنه أن يؤثر في الولايات المتحدة أكثر من أي صراع آخر. ففي أعقاب الأشهر الأول المبكرة من تولي إدارة أوباما، أصبحت سياسة "أوقفوا إيران" بؤرة لتركيز السياسة الأميركية.

وتؤكد إيران بطبيعة الحال مراراً وتكراراً التزامها بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ولكن علاقاتها السابقة مع الدكتور عبدالقدير خان- "الأب الروحي" لبرنامج الأسلحة النووية الباكستاني، وواحد من عتاة نشر العلوم النووية- تدعو إلى التشكك. والواقع أن الولايات المتحدة تحمل "شبكة عبدالقدير خان" المسؤولية عن مساعدة إيران في بدء تأسيس برنامجها النووي.

وتتفاقم حالة انعدام الثقة بسبب تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الحارقة، خصوصا عن إسرائيل، وعلى الرغم من أن أصول البرنامج النووي الإيراني ترجع إلى الرئاسة "المستنيرة" للرئيس محمد خاتمي (1997-2005)- قبل تنصيب أحمدي نجاد مباشرة أنهت إيران وقف تخصيب اليورانيوم الذي فرضته إيران على نفسها- فإن التصريحات الرنانة للرئيس أحمدي نجاد هي التي زادت الأمور سوءا.

وليس فقط مع  الولايات المتحدة، ففي شهر سبتمبر من عام 2005، اعتبرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران "غير ممتثلة" لشروط معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. وفي أثناء الفترة 2006-2008، كانت إيران موضوعاً لثلاثة قرارات صادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وكل منها فرض المزيد من العقوبات عليها. ولكن على الرغم من التكاليف الاقتصادية المتزايدة فإن الاستجابة الإيرانية تزداد تصلبا.

إن إحساس إيران بعدم الأمان يرجع إلى عام 1953 على الأقل، حين خطط مسؤولون بريطانيون وأميركيون للانقلاب العسكري الذي أطاح بمحمد مصدق- أول رئيس وزراء إيراني منتخب وقومي متعصب- ونصب في محله الجنرال فضل الله زاهدي. وكانت الخطيئة التي ارتكبها مصدق تتلخص في خطة تأميم صناعة النفط الإيرانية. ولكن في خضم المطالبة بنفط إيران، وتقويض ديمقراطيتها، وتعريض أمنها القومي للخطر، ارتكبت الولايات المتحدة وبريطانيا خطيئة أشد خطورة: ألا وهي جرح الكبرياء الوطنية الإيرانية.

ثم جاءت مسألة طرد الشاه، وثورة آية الله روح الله الخميني الإسلامية، وخطف الدبلوماسيين الأميركيين على نحو لم يخل من السخف، ومحاولة الرئيس جيمي كارتر المأساوية لإطلاق سراحهم عسكريا، وفضيحة "إيران كونترا" حين سعى مسؤولون في إدارة رونالد ريغان بيع أسلحة إلى إيران عن طريق طرف ثالث وتحويل العائدات إلى الميليشيات المسلحة المناهضة لساندينيستا في نيكاراغوا.

إن إيران تقع في قلب منطقة شديدة الاضطراب وقابلة للاشتعال في أي لحظة، وتمتد بصمة الشيعة الإيرانية من البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة هندو كوش، وتلعب هذه البصمة دوراً بالغ الأهمية في أفغانستان؛ والواقع أن إيران كانت مؤيدة، ولكن من دون مشاركة، لطرد طالبان من السلطة في عام 2001.

ولكن مع بلد كهذا فإن "عدم المشاركة" يعني عدم انتهاج أي سياسة على الإطلاق. والواقع أن فشل الولايات المتحدة في التحدث مع إيران لا يقل خطورة عن فشلها طيلة عقود من الزمان في التحدث مع الصين تحت زعامة ماو تسي تونغ. والفشل الجاري في التحدث مع كوريا الشمالية لا يبدو مفيداً أيضا، كما يوضح لنا قصف كوريا الجنوبية الذي وقع أخيرا. وحتى لو لم تكن الأسلحة النووية الإيرانية مقبولة لدى الولايات المتحدة، فيتعين على الرئيس باراك أوباما أن يبدأ بالتحدث بقدر أعظم من الانفتاح حول ما هو مقبول في نظر الولايات المتحدة. ألا تلزمه جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها بهذا القدر من الانفتاح على الأقل؟

ولا ينبغي للحديث أن يكون مستحيلا، والواقع أنني شاركت بوصفي وزيراً لخارجية الهند في محادثات ناجحة مع إيران في أكثر من مناسبة، فقد تكون إيران دولة يحكمها رجال الدين كما تعلن عن نفسها، ولكنها كانت ناجحة في إدارة العلاقات الخارجية منذ الثورة في عام 1979 على نحو متعقل، وإن لم يكن مريحاً في كل الأحوال، وقد يتبجح أحمدي نجاد ويثرثر كثيرا، ولكن عادة ما يكون هناك قدر كبير من الغموض والحسابات الخاصة خلف انفعالاته.

إن إيران دولة عنيدة، وفخورة، وطموحة، وقد يصيبها جنون العظمة في بعض الأحيان، ولكنها أيضاً ترى نفسها عُرضة للخطر، والحق أن أغلب سكانها من الشباب الذين نشؤوا بلا ذاكرة للثورة الإسلامية في حاجة ماسة إلى فرص العمل التي فشل قادتهم في توفيرها لهم.

وفي ظل هذه الظروف، فإذا عرضنا على إيران مَخرَجاً دبلوماسياً مقبولاً يحفظ لها كرامتها- في المقام الأول، الوعد الجدير بالثقة بمصالحة تاريخية مع الولايات المتحدة تشتمل على فوائد اقتصادية محددة، وليس العروض الغامضة التي يقدمها أوباما حاليا- فإن قادة الثورة المجهدين المتعبين قد يرحبون بهذا المخرج، وهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق أي تقدم في هذا السياق، وليس التهديد والوعيد والعقوبات الغربية.

* جاسوانت سنغ، شغل مناصب وزير المالية والخارجية والدفاع في الهند سابقا، وهو مؤلف كتاب «جناح: الهند ــ التقسيم ــ الاستقلال»، وكتاب «الهند في خطر: أخطاء وأوهام ومصائب السياسة الأمنية».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»