انطلقت قبل أيام جولة جديدة من مفاوضات السلام وسط موجة مبالغ فيها من الأحاديث العامة التي طبعتها آراء المحللين المشككة. لكن هذا المشهد لا يحمل، على ما يبدو، أي جديد، مع أن المحادثات المباشرة السابقة عُقدت قبل سنتين (وتعثرت).

Ad

وما من جديد أيضاً في حادثتي إطلاق النار المريعتين في الضفة الغربية قبل أيام من بدء المحادثات. فقد أودت الحادثة الأولى بحياة أربعة مدنيين إسرائيليين، اثنان منهم والدان لستة أولاد والثالثة امرأة حامل. وتباهت "حماس" بإعلانها مسؤوليتها عن هذه الحادثة، معتبرة إياها وسيلة لفضح المؤامرة التي حاكتها السلطة الفلسطينية مع قوات الاحتلال الإسرائيلية. وفي اليوم التالي، جُرح إسرائيليان آخران.

لكن ما يميز هذه المحادثات راهناً موقف بنيامين نتنياهو، فرغم موجة التشكيك العارمة، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي هذا قد تحول من مخرب إلى صانع سلام حقيقي، وإن بتردد واضح. وإذا صح ذلك، فستتحسن بالتأكيد فرص نجاح المحدثات، ولو جزئياً. خلال مأدبة العشاء التي أقيمت في البيت الأبيض عشية بدء المحادثات، ذكر نتنياهو أنه يريد سلاماً "ينهي الصراع" مع الفلسطينيين "مرة وإلى الأبد".

بدأ نتنياهو التفاوض مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس برعاية الرئيس الأميركي باراك أوباما وبحضور الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الأردني الملك عبدالله وموفد اللجنة الرباعية توني بلير، الذين حضروا لتشجيعهما على المضي قدماً. وفي تل أبيب، عمل وزير دفاعه، إيهود باراك، على وضع شروط الاتفاق النهائي. فأوضح باراك أن القدس يجب أن تُقسّم، مع بقاء المناطق اليهودية تحت السيطرة الإسرائيلية (بما فيها اثنا عشر حياً بُنيت في الجانب الفلسطيني منذ عام 1967)، بسط الدولة الفلسطينية الجديدة سلطتها على المناطق الفلسطينية، ووضع المدينة القديمة ومحيطها تحت "نظام خاص وتدابير متفق عليها". أما عن الضفة الغربية، فأعلن باراك أن المستوطنات المترامية الأطراف ستُفكك، ولن تحتفظ إسرائيل إلا بالتجمعات الاستيطانية الضخمة المجاورة للحدود القديمة. كذلك سيتوصل الطرفان إلى "اتفاقات أمنية صارمة"، وستُحل مسألة مصير اللاجئين الفلسطينيين "بعودتهم إلى داخل الدولة الفلسطينية أو توطينهم في الخارج".

تذكر هذه الخطوات بطرح "معايير كلينتون" القديم الذي قبل به باراك، رئيس الوزراء آنذاك، غير أن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رفضه قبل عشر سنوات خلال محادثات سلام رعاها الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وتوافق معظم الدول الأجنبية على هذه الشروط عموماً.

لكن هذه الشروط تتضارب مع رؤية الموالين لحزب نتنياهو، الليكود، والأحزاب اليمينية والدينية المتحالفة معه في الائتلاف الحالي. ولا شك في أنها تناقض أيضاً رؤية المستوطنين والمتعاطفين معهم سياسياً، الذين لا يشاركون في الحكومة، إلا أنهم يتوقعون من نتنياهو النضال في سبيل "أرض إسرائيل" وقدس يهودية بالكامل.

وهنا ينشأ السؤال: هل يعبّر باراك عما يعجز نتنياهو عن قوله راهناً لكنه مستعد، رغم تردده، لطرحه في حال سارت المفاوضات على خير ما يُرام؟ صحيح أن المقربين من نتنياهو يعتبرون أن تعليقات باراك لا صلة لها برئيس الوزراء، بيد أن نتنياهو نفسه أرسل باراك، زعيم حزب العمال، إلى عمان للتفاوض مع عباس والملك

عبدالله. ويبدو باراك راهناً أشبه بوزير خارجية لمحادثات السلام، في حين أن الرجل الذي يشغل هذا المنصب، أفيغدور ليبرمان، هدد بالاستقالة من الحكومة إن قدّم رئيس الوزراء تنازلات كثيرة.

في هذه الحالة، يذكر باراك أن الحكومة قد "توسّع"، ما يعني أنها قد تشمل حزب كاديما المعارض. ويوضح باراك أن "السلام أكثر أهمية من تركيبة الحكومة".

قد يرى البعض أن باراك ليس لديه خيار آخر، على عكس نتنياهو. ولكن خلال إقامته في واشنطن وفي الأيام التي سبقت الاجتماع الرفيع الشأن، بذل نتانياهو قصارى جهده ليعرب عن مقاربة إيجابية إلى المفاوضات. وفي خطاب ألقاه أمام أنصار حزب الليكود في التاسع والعشرين من أغسطس، ذكّر "بشجاعة أنور السادات ومناحيم بيغن"، الرئيس المصري وقائد حزب الليكود الإسرائيلي اللذين تفاوضا بشأن أول معاهدة سلام عربية-إسرائيلية في عام 1979.

ولكن ماذا يجب أن يفعل عباس ليتمثل بالسادات كي يتمكن نتنياهو من التفاعل معه على غرار بيغن، الذي أعاد كل أراضي سيناء المحتلة إلى مصر؟ يوضح نتنياهو أن على عباس في المقام الأول "مواصلة المحادثات" رغم كل الخلافات والاختلافات التي ستنشأ مع تقدم المفاوضات.

وقد ظهر بالفعل أول هذه الخلافات. فسينتهي تعليق نتنياهو بناء المستوطنات لمدة عشرة أشهر في السادس والعشرين من سبتمبر. ويصر عباس على انسحابه من المحادثات في حال استؤنفت عملية البناء. لكن نتنياهو يحضه على مواصلة المحادثات الثنائية، فيما يعمل باراك بصمت ليضمن ألا تُجرى أي أعمال بناء خارج المناطق (القدس والأحياء) التي يُتوقع أن تخضع لسيطرة إسرائيل في النهاية. لذلك يحث نتنياهو الجديد الشديد الحماسة، الذي كان سابقاً سيد الأعذار: "دعونا لا نبحث عن حجج لنوقف المحادثات".