مسألة نسبية!
الفقر في كثير من الأحيان شعور يشعر به الإنسان، وليس واقعاً يحياه، فصاحب الملايين «المتباكي» يصاحب ويجالس أهل المليارات، فيشعر بينهم بالدونية والفقر الشديد، وأنه قزم بين عمالقة ومعدم بين أثرياء! أما من يملك مئات الدنانير، فيعيش بين المعدمين الذين لا يملكون قوت يومهم، لذلك يشعر معهم وبينهم بأنه يملك الدنيا وما عليها!
أعجب المخلوقات وأغربها بلا منازع هو أخوك الإنسان، ومع ذلك، عليك ألا تستغرب أو تعجب من طبائعه، وسلوكياته، وطريقة تفكيره، وردود أفعاله أبداً، فقط، ابحث دائماً عن السبب ودع عنك العجب، وسترى أن الأمر طبيعي... طبيعي جداً!مثلاً.. إن جاءك أحد يوماً "يتحلطم" ويشكو ويندب حظه التعس، وأنه منذ أتى إلى هذه الدنيا وهو غير موفق في حياته، وأن النحس يلازمه أينما حل، والفقر يتبعه حيث ارتحل، و"القرادة" لا تريد أن تفارقه أبداً، مع أنه- والله العظيم- رجل "عسل" وطيب إلى أقصى الحدود، وإنسان... إنسان بمعنى الكلمة، وفوق هذا مؤمن ملتزم، يصلي ويصوم ويؤدي كل ما عليه من فروض وطاعات، وقد دعا الله كثيراً أن يحسِّن وضعه وييسّر أمره، لكن الله لا يستجيب له، ولا يبدل من أمره شيئاً، وأنه- بصراحة- قد ملّ، ملَّ وتعب كثيراً وهو يرى من حوله يتمتعون ويستمتعون بما أنعم وأغدق الله عليهم من رزق واسع وثروات طائلة!
ثم إنه سيطلب منك الحل، ماذا يفعل ويصنع؟ ولا تملك له أي حل، وليس بيدك إلا أن تتعاطف معه، فأنت أيضاً تعاني بعض ما يعانيه، وتقاسي من تكاليف الحياة ومطالبها التي لا تنتهي، لكنك، من منطلق التعاطف معه، ومن باب الرغبة الصادقة في إيجاد حل لمشكلته، وبشيء من "اللقافة" والفضول ستسأله عن مهنته، وكم يبلغ راتبه؟!وسيجيبك بأنه رجل أعمال بسيط جداً، "يطقطق" في التجارة والعقار من هنا وهناك، ولا يملك- رغم جهده العظيم- من حطام الدنيا سوى ملايين عدة من الدنانير، فقط، لا أقل ولا أكثر... يا للهول!قلت لك لا تعجب من سلوك أخيك الإنسان، أو- إن شئت- فوفر عجبك للآتي، فقد تجمعك الأقدار مع صنف آخر مختلف من الأصناف البشرية، كتلة من الغرور تمشي متبخترة بين قومها، كالطاووس نافشاً ريشه، رافعاً أنفه، لا يعجبه ولا يملأ عينه أحد ممن يحيطون به!إن تكلم... تكلم كالأباطرة، وإن ابتسم... ابتسم بغرور وتعالٍٍ، تحيط به من كل جانب عيون حاقدة ترمقه بحسد شديد، متمنية زوال نعمته وذهابها إلى غير رجعة، ثم إنك تسأل عنه لتتفاجأ بأن الإمبراطور، لا يعدو أن يكون مسكيناً يستحق الشفقة لا الحسد، فهو لا يملك سوى مئات عدة من الدنانير... فقط لا غير! عجايب! ما الذي يدعو صاحب الملايين ليبكي ويشتكي ويندب، في الوقت الذي يتبختر محسوداً من يملك مئات الدنانير؟!السبب يا سيدي أن مسألة الفقر والغنى مسألة نسبية، فالفقر في كثير من الأحيان شعور يشعر به الإنسان، وليس واقعاً يحياه، فصاحب الملايين "المتباكي" يصاحب ويجالس أهل المليارات، فيشعر بينهم بالدونية والفقر الشديد، وأنه قزم بين عمالقة ومعدم بين أثرياء، وبأنه منحوس، و"مضروب عين، وأمه داعية عليه... لا له"!أما مَن يملك مئات الدنانير، فيعيش بين المعدمين الذين لا يملكون قوت يومهم لذلك يشعر معهم وبينهم بأنه يملك الدنيا وما عليها، وأنه موفق، ومحظوظ، وغني، وأن الله يحبه لأنه استجاب لدعائه... ودعاء والدته أيضاً! ومازلت... رغم مرور السنوات الطويلة أذكر حكاية رواها صديق لي يعمل في مكتب لتداول الأسهم في بورصة الأوراق المالية، حيث يتعامل مع بعض كبار التجار والأثرياء، يقول إنه في بداية عمله استمع مرة إلى حديث بعضهم، فأتوا ساخرين على ذكر فلان من الناس وقاموا بإطلاق النكت عليه، فتدخل بالحديث قائلاً إن فلاناً هذا "هامور" ولديه أكثر من "مليوووون دينار"! قائلها والعجب يملأ فمه، فساد المكان صمت قليل، ثم.. "هاهاهاها"، انفجرت الضحكات، وقالوا له: "هامور وعنده مليون بس؟! والله إنك مسكين ههههه"!شعر صديقي لحظتها، أنه يعيش في عالم آخر، واكتشف أن المليون مبلغ تافه، تافه جداً، وأنه- هو- من التفاهة بمكان، ألا يملك حتى عشر أعشاره، وصدق أنه مسكين حقاً!المسألة نسبية كما قلت، والشعور بالفقر يحكمه المكان والزمان والبيئة التي يعيش الإنسان فيها، والناس الذين يختلط بهم، ولذلك، يجب ألا يعجب البعض، إن قلنا إن في الكويت فقراء، وإن هؤلاء الفقراء راتبهم الشهري ألف دولار مثلاً! وهم فقراء لأنهم يرون غيرهم يلبسون أفضل، ويركبون سيارة أفخم، ويقطنون بيتاً أكبر، ويسافرون كلما خطر لهم خاطر السفر!نعم هو فقر الأغنياء، لكنه فقر أيضاً، فالفقر شعور يحكمه المكان والزمان والظروف المحيطة، والقناعة كنز لا يفنى، كنز عند قليل من الناس، ولا يفنى عند أقل القليل منهم... بكل تأكيد!