تظاهرات «البدون» التي جرت في الأيام القليلة الماضية، وسيل التعليقات والتصريحات والإجراءات التي جرت من بعدها، وعلى هامشها، تستحق وقفة للنظر.

Ad

كثير من الناس دفعهم الانفعال العاطفي، عندما شاهدوا خروج شباب «البدون» في تلك التظاهرات، وخروج بعضهم عن المسار السلمي المفترض في مثل هذه التظاهرات، إلى أن ينادوا بالضرب بكل شدة تجاه «البدون»، وكثيرون ذهبوا إلى القول أيضاً إن «البدون»، جميعا ودون أي استثناء، هم شراذم من المندسين المزورين الذين أخفوا جنسياتهم الأصلية، وهناك من ذهبوا كذلك إلى القول إن هؤلاء خرجوا الآن بالذات للتظاهر بعدما صار الاتفاق ما بين السلطات الكويتية والعراقية لتبادل الملفات والمعلومات بخصوص قضية «البدون»، فخافوا افتضاح أمرهم، وغير ذلك مما سمعنا وقرأنا.

إلا أن محاولة تفنيد أي من هذا ستبوء بالفشل حتما، فتاريخ هذه القضية الطويل، قد كشف بوضوح أن أغلب من يتحدثون عنها لا يريدون أن يغيروا قناعاتهم تجاهها، حتى لو تبدى لهم الحق كشمس الظهيرة، لأن المسألة عندهم قد اختلطت بها أجندات كثيرة تمنعهم من ذلك، وهو ما يأتي بغض النظر عن مدى الالتزام الديني أو الأخلاقي أو المقام الفكري أو الأكاديمي الذي قد تراه منهم. وهو السبب ذاته الذي جعلني، ولمرات عديدة أوصل رسالة إلى بعض الإخوة «البدون» الناشطين تقول إن مسيرتهم القائمة على إعادة شرح الحكاية من الصفر في كل مرة تخرج بها لجنة أو جهة تدعي الاهتمام بالقضية، هو من قبيل تضييع الوقت والجهد، لأنها قد أصبحت اليوم أمراً معروفاً لا يحتاج إلى تعريف.

لكن الأمر الذي حيرني كثيراً، هو موقف البعض ممن أعرف أنهم يؤيدون وبلا تردد خطوة التظاهر والاعتصام السلمي من قِبَل الكويتيين للمطالبة بأي شيء يريدونه باعتباره حقاً دستورياً إنسانياً، كما يزعمون، لكنهم رفضوا اليوم خطوة التظاهر جملة وتفصيلا عندما قام بها «البدون» للمطالبة بحقوقهم. أي أن رفضهم ليس رفضاً مبدئياً، كما يفعل السلفيون ممن يرون حرمة التظاهرات عموماً، على سبيل المثال، إنما هو رفض فئوي لكون الخطوة قد صدرت من «البدون» بالذات!

هذا التمييز «العنصري» كشف لي مقدار هشاشة المبادئ التي يتكئ عليها هؤلاء، لأن المبدأ كلٌ لا يصح أن يتجزأ وفقاً لاختلاف الظروف والاعتبارات، وإن كان من حق الكويتي أن يتظاهر ويعتصم ليطالب بحقوق يدّعي أنها سلبت منه أو أن يعترض على ما يراه ظلما وقع عليه، فمن حق غير الكويتي، كائناً من كان، كذلك أن يفعل الأمر نفسه طالما كان في الإطار السلمي، ومن يخرج عن التعبير السلمي، يتم كبحه وفقاً للقانون، لا بتهمة التظاهر للمطالبة بحقوق يدعيها، إنما بتهمة التخريب أو الإساءة أو التعدي، أو ما شابه.

إن ما يجب أن يقف الجميع عنده، ليس مسألة حق الناس بالخروج للتظاهر من عدمه، إنما السؤال المحوري الأساس: هو هل لهؤلاء المتظاهرين، أيا كانوا، حقوق مهضومة فعلاً؟ وهو السؤال ذاته الذي يجب أن يسأله الإنسان في حالة «البدون»!

والإجابة لن تكون مبذولة للاجتهادات الشخصية بطبيعة الحال، بل يجب أن تأتي وفقاً للقوانين والتشريعات في حق كل حالة من أفراد «البدون» على حدة، فلا يصح التعامل مع «البدون» ككتلة واحدة صماء. وهذه القوانين والتشريعات يفترض أن يكون قد سنّها مجلس الأمة وصادق عليها وألزم الحكومة بتطبيقها، وتابعها بعد ذلك، وهو الأمر الذي لم يحصل حتى الساعة وللأسف!

في كل مرة أكتب عن هذا الموضوع أكرر بأن حل هذه القضية سهل جداً، لو أرادت الحكومة أن تفعل ذلك، ولو أراد البرلمان أن يلزمها حقاً بفعل ذلك. وفي كل مرة أكرر أيضاً بأنه لا عاقل يطالب بمنح الجنسية لكل «البدون» هكذا دون تمحيص، إنما بالتدقيق والتحري عن مستحقيها، ولو كان المستحق شخصاً واحداً، ثم تعديل أوضاع البقية ومنحهم الحقوق الإنسانية للعمل والصحة والتعليم والحركة والتنقل، وكذلك تطبيق القانون على المزورين المندسين ممن يثبت تلاعبهم حقاً في ساحة القضاء.

لكنني حتى الساعة لا أرى أي مظهر يدل على وجود الإرادة الحقيقة والنية الإيجابية، لا من الحكومة ولا من البرلمان، لحل القضية، وكل ما هنالك وعود إنشائية، بل ممارسات تسير في الاتجاه المعاكس، كمثل التعميم الذي صدر من وزارة العدل بالأمس لمنع «البدون» من حق توكيل المحامين إلا بالرجوع إلى اللجنة الأمنية، مما يعرقل حق التقاضي المكفول شرعاً ودستورياً ووفقاً لكل مواثيق حقوق الإنسان، وهذا أمر خطير، خطير جداً!