1 - لا يفزعن أحدٌ مما يجري الآن في مصر وتونس، بعد نجاح هاتين الثورتين، ففيزياء وكيمياء الثورات في التاريخ، تؤكد لنا أن «استبداد الفوضى» يأتي عادة بعد سقوط استبداد الدولة، وقانون الثورات، يؤكد أن «استبداد الفوضى» يتبع استبداد الدولة، بل إن «استبداد الفوضى» يأتي كرد، أو كرجع الصدى لاستبداد الدولة.

Ad

2 - ولو أخذنا أشهر ثورة في التاريخ، وهي الثورة الفرنسية 1789، لوجدنا أن سقوط دولة الاستبداد لآل البوربون، قد أقام دولة استبداد الرعاع، فتحوَّلت ثورة 1789 إلى حكم الإرهاب، ثم حلَّ بعده انقلاب ترميدور، وقيام الإمبراطورية التي أدى سقوطها إلى عودة الملكية، وكان على الفرنسيين أن ينتظروا حتى نهاية القرن التاسع عشر كي تقوم الجمهورية الثالثة التي أسقطتها الهزيمة العسكرية لفرنسا في 1940. وقامت حكومة «فيشي»، التي دعمها النازيون، وأسقطتها المقاومة الفرنسية بقيادة ديغول.

3 - وعلينا أن نفهم، ونتقبَّل كذلك، بوعي وإدراك، بعد تأمل عميق للتاريخ، أن الثورة لا تنتج لنا دائماً الديمقراطية، وأن الديمقراطية ليست دائماً وليدة الثورة، بل على العكس من ذلك، فالثورة، يمكن لها أن تلد لنا دكتاتورية جديدة، ولعل الثورة البلشفية 1917 ، أكبر مثال على ذلك، حين أدت هذه الثورة الى دكتاتورية الحزب الواحد، وهو الحزب الشيوعي، وكانت نتيجة ذلك، انهيار الاتحاد السوفياتي 1989، بعد أن أصبح إحدى القوتين العظميين في التاريخ الحديث، وإمبراطورية عظمى، تسيطر على كل أوروبا الشرقية. كذلك كان الأمر في إسبانيا 1936. أما في العالم العربي فأكبر مثال على ولادة الثورة للدكتاتورية، هو الثورة المصرية 1952، التي أدَّت الى قيام دكتاتورية عبدالناصر، والتي كان لها آثارها المدمرة، ليس على مصر وحدها، ولكن على معظم أنحاء العالم العربي، خصوصاً السودان، وليبيا، وسورية، واليمن، التي قامت فيها دكتاتوريات مروِّعة، جعلت الشعوب تطلق «شآبيب» الرحمة على العهود الملكية، أو العهود السابقة للثورات، التي حصلت في هذه البلدان، وتذكر «أيام زمان» بالخير واليُمن والبركات، وعبَّر عن كل هذا الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي، في مقاله، في صحيفة «الأهرام»، 17/5/2011، بعنوان: «صفاً واحداً في وجه الهكسوس الجُدد»، قال فيه:

« انقلاب يوليو 1952، دمَّر كل الأسس، التي قام عليها الوعي الوطني، فقد حلَّ الأحزاب، التي قادت حركة النهضة، وألَّفت بين عناصر الأمة، ما عدا جماعة الإخوان المسلمين، التي تحالفت مع ضباط الانقلاب، وأرادت أن تقتسم معهم السلطة، فاصطدمت بهم. وأُوقف العمل بالدستور، وفُرضت الرقابة على الصحف، وُجرد المثقفون من سلطتهم الفكرية والأخلاقية بالترهيب، والترغيب»..

4 - ماذا يجري في مصر الآن؟ وهل هذه الفوضى، هي من فيزياء وكيمياء الثورات في التاريخ؟

والجواب: نعم، إن مصر في فوضى. لا أحد يستطيع إنكار ذلك، ومن ينكر ذلك، فهو إما أعمى، وإما أصم، والدليل الجديد لهذه الفوضى، قرار محكمة جنايات القاهرة في 21/5/2011 تأجيل محاكمة وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، وستة من قيادات وزارة الداخلية السابقين والحاليين إلى جلسة تُعقد في 26/6/2011. وجاء قرار التأجيل في ضوء الفوضى العارمة، وعدم انضباط الجلسة، حيث اشتبك عدد من المحامين مع قوات الأمن، الذين منعوهم، ومنعوا الإعلاميين من دخول القاعة. أما المظاهر الأخرى المختلفة لهذه الفوضى، فهي:

1- غنيٌ عن القول، أن انفلات الشارع المصري، وانتشار البلطجة فيه، من علامات هذه الفوضى، بعد أن أصبح المواطن المصري غير آمن على نفسه، ولا على أهله، ولا على بيته، ومن مظاهر عدم الأمان هذا، أن المواطن المصري، أصبح يخشى الفصل التعسفي، نتيجة لاتهامه بأنه كان عضواً في الحزب الوطني الحاكم سابقاً، أو على الأقل، كان يتعاطف مع هذه الحزب، وهو ما اتبعته ثورة 1952، حين عزلت سياسياً الأحزاب كافة، وزعماء هذه الأحزاب، عن الحياة السياسية، بل سجنت قسماً منهم.

2- فوضى وسائل الإعلام الرسمي والخاص والحزبي، الذي أخذ يكيل التهم بلا حساب لرجال عهد مبارك السابق، دون أن ينتظر نتائج التحقيقات والمحاكمات التي ستتم قريباً، مما أثار غضب وانفعال الكثير من الكتاب المصريين العقلاء، ومنهم لميس جابر، التي قالت في مقالها الأخير («عن الإدانة والإعلام... وهيكل والأحلام»، في جريدة «المصري اليوم»، 21/5/2011): «نفسي أفوق شوية من التعذيب الإعلامي، الذي ينفجر فى صوت واحد، واتجاه واحد، وتأليف واحد... تلطيش، وصراخ، وشتائم، وسباب، وقذف. بلا قانون، ولا حق، ولا ضابط، ولا رابط، لأننا فى عصر الحرية. ارحمونا.. خلاص يا إخوانا أصحاب الصحافة والإعلام والأقلام، تمَّ المطلوب وزيادة. كان المطلوب هو مرمطة رئيس الدولة، وزوجته، وأسرته، وباقي رجال ونساء المرحلة كلها، وليس المحاكمة، ولا الحساب».

3- استقواء السلفيين و»الإخوان المسلمين» بالمجلس العسكري الأعلى، الذي يشاهد أعمال «البلطجة» التي يقوم بها السلفيون، ولا يحرك ساكناً حازماً، وهم من وصفهم الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي بـ»الهكسوس الجُدد» في مقاله السابق في صحيفة «الأهرام»، 17/5/2011، في تعليقه على الفتنة الطائفية، في أحداث إمبابة، قال فيه:

«لا أظن أن التسميات التي كنا نطلقها على ما كان يقع بين المسلمين والمسيحيين المصريين من حوادث يصلح لأن نطلقه على ما حدث أخيراً في إمبابة‏.، فالذي حدث في إمبابة ليس مجرد فتنة، أو غزوة سلفية، أو جريمة مدبرة‏، إنما هو دليل قاطع على أن الكيان الوطني المصري كله أصبح ضعيفاً متهافتاً قابلاً للتصدع والانهيار، والحل في التصدي لهذا الوعي الزائف وتطهير البلاد منه، والدفاع عن مدنية الدولة، والوقوف بحزم ضد خلط الدين بالسياسة، وإصلاح مناهج التعليم، وإعادة تأهيل أئمة المساجد، وأن تتحد القوى الديمقراطية، وتقف صفاً واحداً في وجه الهكسوس الجُدد!»

4- الثورة سهم مُنطلق. فنحن نعرف نقطة انطلاقه، ونتحكم بها، ولكننا لا نعرف نقطة نهايته ولا نقدر التحكم بها، وهذا ما يخلق الفوضى واستبدادها، ومثال ذلك يكمن في أقوى وأوسع تنظيم سياسي مصري الآن وهو «جماعة الإخوان المسلمين» الذين يتغيرون ويتبدلون كل يوم متناقضين، ولاعبين سياسيين ماكرين، فيقولون بالدولة المدنية التي لا يؤمنون بها، ويتحدثون عن الحرية والديمقراطية، لكنهم يخططون لاستبداد ديني، بعد أن تنقشع غمامة استبداد الفوضى الحالية، وبعد انهيار استبداد الدولة المدنية السابقة.

* كاتب أردني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة