استوقفني وأنا بصدد إعداد موضوع عن فهد العسكر كُلّفتُ به من قبل مجلة العربي مؤخراً، نص للشاعر بعنوان (تحية واعتذار). هذا النص لفت انتباهي مجدداً إلى قضية طريفة وعجيبة طالما وسمت الشعراء والمبدعين في عمومهم، وأعطتهم ميزة أو شارة لا يفرطون بها مهما كان الثمن!

Ad

القصة في نص (تحية واعتذار) تدور حول اعتذار فهد العسكر عن عدم الحضور إلى حفل تكريم أقيم على شرفه احتفالاً بفوزه في المسابقة الشعرية التي نظمتها إذاعة لندن. ويمكننا أن ندرك مدى حجم المناسبة وأهميتها حين نعلم أن من بين الحضور: أمير البلاد حينذاك الشيخ أحمد الجابر والمعتمد البريطاني ورئيس مجلس المعارف وثلة من أعضاء المجلس. ورغم أهمية المناسبة وفخامتها فإن الشاعر بكل بساطة لم يحضر! وأرسل بالنيابة عنه نصاً متهافتاً يقول في بيتين منه:

بالله معذرة فديتكمُ على عدم الحضورِ

قد حيل بين الماء والعطشان في حرّ الهجيرِ

ثم يقف الأمر عند ذلك، من غير أن يوضح الشاعر المانع الذي حال دون الحضور! ولا يملك المتأمل إلا أن يبتسم في سره مدركاً لحقيقة الأمر. إذ ما قيمة كل ما كتب من شكوى وتفجّع ورثاء حال وشعور بالاضطهاد وسوء الفهم إذا ما قبل بهذا التكريم؟! ثم أليس في القبول جناية مؤكدة على الشخصية الشعرية المركبة التي أصبحت سِمَته وشارته، بل وإلغاء لها بجرة قلم واحدة؟! وماذا سيتبقى يا ترى من فهد العسكر وشعره وحروبه الفكرية والاجتماعية بعد ذلك؟! وكيف له أن يجد موضع قدم (أو قلم) لأبيات مؤثرة وموجعة من مثل:

وطني وأدتُ بك الشباب وكل ما ملكت يميني

وقبرتُ فيك مواهبي واستنزفتْ غُللي شؤوني... إلخ

وأمر التشبث بالمحنة لإثبات الذات لا يقتصر على فهد العسكر، وإنما هي سمة عامة عند المبدعين طالما عضوا عليها بالنواجذ! فها هو أحمد فؤاد نجم يتخذ من الفقر، (أو ادعاء الفقر) مرتقى ووسيلة يصعب التفريط بها. يقول في أحد لقاءاته المتلفزة: «إن الفقر وسام على صدري وباختياري وقدري»! ولتكريس هذه المقولة فإن الشاعر لا يزال يحتفظ بشقة فوق السطوح، وبالجلابية الرخيصة ليدلل على (برستيج) الفقربأدقّ تفاصيله وملامحه! ولا يملك المتأمل وهو يتابع مصادر الخير والنعمة التي تنهال على الشاعر من المقابلات الفضائية والدعوات الخارجية والأشعار المغناة والدواوين المطبوعة والتسجيلات الرائجة... إلخ، إلا أن يتساءل: هل الشاعر فقير حقاً؟ أم ان (ادعاء الفقر) باتت شارة وقيمة بحدّ ذاتها، وبدون الفقر ماذا سيتبقى من نجم وشخصيته الاعتبارية يا ترى؟!

وكما يُستدرَج الاضطهاد والفقر لدى المبدعين استدراجاً كذلك الأمر مع المرض والعجز والعاهة. فأي معنى إنساني أو شعري سيبقى لهشاشة السياب ورهافة الشابي وانتحابهما أمام الألم والحزن والحب المحروم، لو كرّسا إرادة السعي نحو الشفاء والسعادة والعمر المديد؟! وأي قيمة ستخلد لمعاني اليأس والقلق والغربة الوجودية لو أبصر المعري أو تزوج قيس من ليلى أو أقلع أبونواس عن إدمانه ومجونه؟! وهل يساور أيا منا الشك في إمكانية أن يتنازل أي منهم عن محنته، وهي تاجه وقلادته ومجده الأبدي!

هناك مقولة مأثورة للدلاي لاما فحواها أن السعادة أو الشقاء ليست قدراً وإنما هي مسألة اختيار. وأعتقد أن معظم من ذكرناهم أو لم نذكرهم من الموهوبين قد اختاروا بإرادتهم البقاء في الحالة، والتلذذ بالعذاب والمعاناة والمرض، بل وأحياناً السعي الحثيث نحو الموت بإرادة لا تلين. ولعلهم في ارتكابهم هذا (الشذوذ) يدركون أنهم يعيشون (حالة) خاصة، ظاهرها الشقاء وباطنها السعادة بصيت لا يُحدّ ومجد لا يبلى!

ولله في خلقه شؤون!

يمكن متابعة المقالات السابقة على الرابط: