لم تتخيل المعلمة المسكينة أن الدرس التقليدي المعتاد، حول طاعة ولي الأمر، والذي كانت تعلمه لطالباتها طوال سنوات سيجر عليها هذه المرة كل هذا الإزعاج، فلسنوات مضت وهي تشرح الدرس نفسه وتتجاوب معها الطالبات إن تم قبول النداء، ككل الدروس التلقينية الأخرى، فيمر الأمر سلساً دون أي منغصات، لكن هذه المرة، فوجئت بأن طالباتها كن حاضرات بالكثير من التساؤلات؛ حول ما العمل إذا ما كان الحاكم ظالماً وإذا لم يحكم بالعدل؟ وهل يصح التظاهر أو الثورة؟ وما الموقف من ثورتي مصر وتونس وغيرهما؟ وهل المتظاهرون، والثائرون آثمون أم لا؟ وغيره وغيره... وإذا بها تواجه طوفاناً من الأسئلة المشتعلة التي لم تكن بقادرة، في حال من الأحوال، على مواجهتها أو التعامل معها، لا علمياً ولا فكرياً ولا حتى نفسياً!

Ad

هذا الموقف كان قد حصل فعلا بالأمس القريب في مدرسة للبنات كما بلغني، ولكم أن تتخيلوا في مقابله موقفاً مشابهاً، وبالطبع أشد حماسة «وثورية»، في مدارس البنين!

ومرادي من هذا المقال، طبعا، ليس الوقوف عند مسألة جواز التظاهر والثورة من عدمه، فأنا أعرف وأدرك كم هو شائك ومستفز هذا الموضوع، وكم هو ملتبس سياسياً واجتماعياً بطبيعة الحال، لكنني أريد التوقف عند فكرة وجود هذا الدرس اليوم في المناهج الدراسية، خصوصاً في ظل عدم وجود الكوادر التدريسية القادرة على التعامل مع نتائجه وتبعاته.

طلبة اليوم، من البنين والبنات على حد سواء، ما عادوا على شاكلة طلبة الأمس حتماً، فاليوم يعيش الطلبة في عالم منفتح إعلامياً على أدق دقائق ما يجري في كل بلدانه، ويشاركون بأنفسهم طوال الوقت في تبادل الأخبار والمعلومات حول هذا الذي يجري، بل في التعليق والتفاعل معه لحظة بلحظة. طلبتنا اليوم موجودون في «الفيس بوك» وفي «تويتر» وفي المدونات وفي المنتديات، وفي دول عربية أخرى شارك بعضهم في صناعة وإدارة الثورات التي شاهدناها طوال الأيام الماضية ونشاهدها اليوم.

لذا فهؤلاء الطلبة لا يمكن لهم أبدا اليوم أن يتلقوا درساً كمثل هذا الدرس، بطريقته التي أريد لها أن تكون تلقينية رخامية باردة جامدة، وأن يفترض أحد ما، أنهم سيبتلعونه هكذا دون مناقشة ودون تساؤل واكتراث، لأن عالم الانفتاح الإعلامي المذهل قد قفز بعقول الناس ومداركهم قفزات كبيرة إلى الأعلى وخارج كل حدود المألوف، بل حتى أطفال اليوم ما عادوا كأطفال الأمس، فابني ذو الأربعة عشر عاماً جلس يناقشني بالأمس عن الديمقراطية والدكتاتورية وحقوق المشاركة الشعبية والانتخابات، والكيفية التي تم بها اختيار الخلفاء في صدر الدولة الإسلامية وغيره، وهي مفاهيم وتساؤلات لم تقترب من دائرة عقلي شخصياً يوم كنت في مثل عمره، بل أكبر من ذلك بسنوات ليست بقليلة!

إن مفاهيم المشاركة الشعبية، وحق الأمة، والديمقراطية وغيرها، قد أضحت جميعها اليوم مفردات مألوفة في لغة الناس اليومية، على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم، بعدما حملتها وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط الإنترنت عبر كل الحدود، كاسرة بها كل القيود، وإن لم يظهر ذلك على السطح في بعض الحالات والبيئات، فلا يعني ذلك أبداً أنه غير كامن مشتعل كجمر تحت رماد في الأعماق، وكل من يظن أن شعباً ما سيظل بعيداً عن هذا النضج وهذه التساؤلات المحرقة يراهن على رأسه في لعبة روليت روسية!

نعم، قد تختلف الظروف والبيئات والملابسات المعيشية، ولكن كل الشعوب في النهاية سواء، وكذلك فإن صمام الأمان واحد في كل الحالات أيضا، وهو الحكم بالعدل، وإعطاء الناس حقوقها، ودمجها في آليات صنع القرار السياسي، وكبح جماح الفساد على يد أفراد السلطة والمقربين منهم، وعدالة تطبيق القانون على الجميع بلا محاباة أو جور.

وأما الاتكاء على الرخاء الاقتصادي، أو طبيعة المجتمع الهادئة غير النازعة إلى العنف أو ربما القبضة الأمنية الشديدة أو حتى الفتاوى الدينية التي تحرم التظاهر والثورة، حتى إن استطاعت كبح جماح الأمور لفترة من الزمن، قد تطول، فإنه لن يقدم ضماناً أكيداً لأي ضمان نظام حاكم مهما كانت هيئته.

هذا ما نراه اليوم رأي العين، والمستقبل سيكون حتما أشد سخونة واشتعالاً.