الترجمة: توأم النص وظله

نشر في 06-11-2010
آخر تحديث 06-11-2010 | 00:00
 د. نجمة إدريس لاأزال أتذكر حلاوة الغوص في رواية «زوربا» لأول مرة، في طبعتها القديمة الصادرة عام 1978م عن دار الآداب، ومازلت أتحسس ذلك الشعور الوثير بألفة اللغة ودفئها وحلاوتها، حتى لكأن مترجمها هو كاتبها بعينه. ومن يومها وبعد أكثر من قراءة على مدى سنوات بت أعتقد جازمة بأن «جورج طرابيشي» المترجم و»كازانتزاكي» المؤلف صنوان متساويان في إبداع هذا العمل. 

ويتكرر لديّ هذا اليقين القلبي كلما قرأت روايات «أمين معلوف» معرّبة بقلم «عفيف دمشقية»، المترجم الفذ الذي يتخلق بين يديه العمل الروائي كما تتخلق التحفة النادرة، بعد أن يفيض عليها من روحه وذوقه وحسّه المتوقد، حتى لتتفتح المفردة بين يديه كما تتفتح الوردة النادرة، وتطاوعه العبارة وكأنه سيدها ومليكها! 

أعتقد بأن أمثلة هذه الترجمات المتميزة والنادرة لابد أن يكون وراءها إيمان وحب حقيقيان للعمل الإبداعي، الأمر الذي يسمح بهذا التماهي الروحي الرفيع بين منشئ العمل ومترجمه. وبذلك لا تقتصر العملية على استبدال الكلمة الأجنبية بكلمة عربية أو استدراج الجمل والعبارات من حظيرة إلى حظيرة، بقدر ما هو تغلغل حثيث في عصب النص وعظمه. 

بيد أن هذه النوعية من المترجمات باتت من النوادر، وبات القارئ منا لكتاب مترجم إلى العربية في أي فرع من فروع العلوم الإنسانية يجد عنتاً ومشقة في مواصلة القراءة، ناهيك عن الخروج بقناعة وفهم حول استقامة الأفكار وصحة اللغة. فأنت تدرك أن المفردات من قاموس اللغة العربية، ولكنك لا تشعر بالارتياح لتركيبة الجملة أو اشتقاق المفردة، ويصيبك الدوار وأنت تحاول فك المعنى الكلي للعبارة، وكأنك إزاء مجموعة من (الكراكيب) المكوّم بعضها فوق بعض: كل قطعة لها رسم وفحوى، ولكنها وقد أخذت إحداها بخناق الأخرى لم تعد تعني شيئاً! ومما يؤسف له أن البحث عن المترجم المتمكن ما عاد هماً مؤرقاً للمؤسسات الثقافية، وبات تمرير ما تيسر من المواهب المتواضعة لا يحرك ساكناً! 

لعل مشكلة الترجمة لا تكمن في مدى إتقان اللغتين: المترجَمة والمترجم عنها، فتلك مسألة مفروغ منها، ولكن الإشكالية ربما تظهر في آلية التفكير حين التعامل مع لغتين مختلفتين، كأن نرى المترجم يفكر بلغة ويترجم ما يفكر فيه بلغة أخرى في نفس الوقت! وهذا من أهم أسباب الركاكة والتهافت في النصوص المترجمة، بسبب أن الترجمة لا تتحرى ما وراء التعبيرات من إيحاءات ومجاز وظلال معانٍ، فتعيد صياغتها وإن بمفردات مغايرة وتعابير مختلفة. وهذه الإجازة في التصرف حين يقتضي المقام والمقال تعد من المهارات التي يعوّل عليها، ولعلها أحد أسرار الصنعة في الترجمات المتميزة. 

أعتقد بأن الترجمة كجهد فني وعلمي تظل عملاً مطلوباً لسد الفراغ الكبير في هذا الحقل، ولنا أن نتوسم الجودة وتوفر الموهبة في شتى المترجمات في المعارف الإنسانية، بيد أن هذه التمنيات تأخذ مدى أكثر صعوبة وندرة حين الحديث عن ترجمة الشعر. ففي ترجمة الشعر لا يتعامل المترجم مع معاني النص بقدر ما يتعامل مع شعرية النص، والشعرية في النصوص عنصر حصري للغة النص، ومن الصعوبة بمكان اقتناصها بخواصها الحصرية ونقلها إلى لغة أخرى، ما لم يكن المترجم على جانب كبير من الموهبة وشفافية الرؤية والقدرة على التماهي في روح النص. 

وبشكل عام تبقى الترجمة منتجاً إنسانياً، وثمرة للمهارة والموهبة معاً، وتظل توأماً للنص وظله الظليل. ولذلك لا أعتقد بأن هذا المنتج البشري سيوكل إلى الكمبيوتر في يوم من الأيام، إلا إذا استطاع الكمبيوتر أن يفرح ويحزن ويقع في الحب ويكتب الشعر، حينئذ ربما يستطيع أن يكون ترجماناً لعقل الإنسان وقلبه.

back to top