علم الأحياء الفلكي يبحث في باطن الأرض... ديدان تفشي أسرار الكون!
إذا اقتصر الوجود في هذا الكون علينا، فيا له من هدر للمساحة. تساءل الإنسان لمئات سنوات مضت حول هوية من قد يعيش خارج حدود كوكبنا: آلهة خيّرة، جنّة مليئة بالخاطئين المُسامحين، ومخلوقات أكبر وأغرب مما قد تتصوّره المخيّلة؟اليوم، أعاد بعض العلماء هذه التأملات إلى حيّز الدراسة والنقاش، عبر علم يُعرف بـ{علم الأحياء الفلكي»، وهو إذ يتطوّر بسرعة لافتة يغوص في خصائص الكون ساعياً إلى تعريف الحياة وتحديد بدايتها على كوكبنا الأرض.
«واشنطن بوست» نشرت المقال التالي حول هذا العلم...أنشأ علم الأحياء الفلكي جيلاً جديداً من الباحثين الذين يعملون على نطاقٍ واسع، ومن علماء في المجال ومغامرين مثل كارل سغان وإنديانا جونز وواتسن وكريك وسي أس أي المريخ. إنهم رجال ونساء يغوصون في جوف الأرض أو في أنفاق تحت جبال القطب الشمالي بحثاً عن حياة في أكثر أماكن الأرض تطرّفاً. واستكشفوا أيضاً البراكين بحثاً عن دلائل تشير إلى كيفية بداية الحياة، وأرسلوا رجالاً آليين إلى الفضاء البعيد في محاولة لرصد أي إشارة إلى الحياة، وفي نهاية المطاف سيرسلون زملاء لهم إلى كواكب أخرى. يتقدّم هذا العلم متكلاً على الشعور المسبق، فالجيولوجي توليس أونستوت في جامعة برنستون أرسله حدسه إلى منجم ذهب في أفريقيا الجنوبية عام 1996 وفي حوزته 6000 دولار ومطرقة صغيرة وإزميل وبعض القوارير الصغيرة لجمع الماء، وأكياس معقّمة لجمع الحجارة بدل المعول والديناميت التقليديين. وبعد 10 سنوات وجد أونستوت وزملاؤه العاملون في المناجم جراثيم خرقت كل قواعد الحياة.اكتشافه الذي حققه بعد سنوات قليلة والذي تمّت الموافقة عليه عام 2006، يتمحور حول جرثومة تتغذى من الجزيئات وتنقسم بفعل الطاقة التي تصدر من الإشعاعات التي تضعف بدورها الصخور المحيطة. وتحتاج الجرثومة إلى معادن ومياه للبقاء على قيد الحياة. لم يستطع عمال المنجم رؤية المعادن والمياه إلى أن شقوا أنفاقاً وآباراً للاستفادة من البحيرات الجوفية والتيارات وحتى من أصغر التشققات الموجودة في الصخور. إذ لا تعيش هذه الجراثيم في أعماق الأرض فحسب، بل إنّها تنقسم أي تتكاثر مرة كل قرن تقريباً.وبحسب جينوم هذه الجرثومة المذهل الذي بيّنه أونستوت، ووفقاً لتحليل عمر المياه التي تُعتبر منزل الجرثومة، لم ترَ هذه الأخيرة نور الشمس ولم تتفاعل مع أي شيء ينتجه النور منذ أكثر من 40 مليون سنة. لكن يشير الـ DNA الخاص بها الى أنها تتفاعل وهي حيّة، وأفادت الأبحاث حول الجينوم بأن هذه الجرثومة تتمتّع بقدرات غير اعتياديّة لامتصاص كمية الكاربون والنيتروجين اللازمة للمصادر غير الحيّة وهي قدرات مفيدة نظراً إلى غياب الكاربون في المحيط القاسي حيث تعيش هذه الجرثومة.لدى هذه الجرثومة أيضاً جينات ذيل، فشكلها الذي يشبه السوط يسمح لها بأن تسبح الى مصادر الغذاء المخبّأة. وصرّح أونستوت بأنها تنتشر على مساحة 130 ميلاً في المنطقة الجوفية لحزام الذهب في أفريقيا الجنوبية. وبهدف تكريم هذا المخلوق والعالم الذي سافر فيه وأصبح منزله، سعى الفريق، الذي تساعد في إدارته العالمة في الجيولوجيا في جامعة إنديانا ليزا برات، إلى إيجاد اسم له يتناسب وهذا الإنجاز المتمثّل بوجود هذه الجرثومة أولاً ومن ثمّ اكتشافها. اختار العلماء إسماً من الكتابة اللاتينية السرية الموجودة على قصاصة المخطوطة التي أتى على ذكرها البروفسور فون هاردويغ، بطل كلاسيكية جول فرن «رحلة إلى مركز الأرض» في أوّل كتابه. إذ ترشده هذه المخطوطة إلى بركان في أيسلاندا وتقول له: «إنزل أيها المسافر الجريء وستبلغ مركز الأرض». وهكذا تعرف العالم إلى «ديزولفورديس أوداكسفياتور» البكتيريا التي تعيش في عمق 1.5 كم حتى 3 كم تحت سطح الأرض في المياه الجوفية.حياة ميكروبيّة يتّخذ أونستوت جنوب أفريقيا مركزاً لأبحاثه، ليس لأن الحياة الميكروبية غير موجودة تحت نيويورك ولندن وطوكيو بل ببساطة لأنّ أعمق مناجم في العالم حُفرت في جنوب أفريقيا. وكان أونستوت استكشف أعماق الأرض للمرة الأولى بحثاً عن الجراثيم كجزء من برنامج حفر تتولاه وزارة الطاقة الأميركية في السافانا، ولاحقاً في موقع لبئر في تيكساكو في ولاية فرجينيا الغربية. وبعد أن خاب أمله من النتائج المحدودة التي حصل عليها، وخوفاً من تلوّث العينات التي بحوزته، راح يبحث عن بدائل واختار مناجم الذهب والبلاتين والألماس في جنوب أفريقيا التي يصل عمقها حتى ميلين أو أكثر. إلا أنّ مالكي المناجم كانوا يمانعون دخول الغرباء إلى مناجمهم فبقي أونستوت وغيره من العلماء يفاوضونهم لمدة سنتين ليتمكنوا أخيراً من تحقيق إنجازاتهم. اليوم، يتمتّع أونستوت وإيستا فان هيردين، رئيس مجموعة بحوث «الكيمياء الحيوية القصوى» في جامعة فري ستايت في مدينة بلومفونتين في جنوب أفريقيا، بثقة مديري مناجم كثر في حوض يتواترسراند، الحوض الأكثر إنتاجيّة في العالم. وقد شكّل ذلك فرصة ذهبية لعلم الأحياء الفلكي، وساعد أونستوت وغيره على الاستنتاج بأن جرثومة د. أوداكسفيايتور وملايين الجراثيم التي لا تُعد ولا تُحصى تعيش تحت أميال من المركز التجاري الذي ترتاده وغرفة نومك والحديقة العامة المفضّلة لديك. أو تحت أميال من سطح المريخ. بحسب العلماء، قبل دهور كان الكوكب المجاور الأكثر تشابهاً مع الأرض أكثر قابلية إلى الحياة منها، لكن الأرض اصطدمت بكوكب آخر أصغر، ما أدّى إلى وجود القمر. وبطريقة أو بأخرى فقد المريخ حقله المغناطيسي وغلافه الجوّي وبالتالي قدرته على احتواء الماء السائل على سطحه أو حماية نفسه من الإشعاع الشمسي أو من الأشعة فوق البنفسجية. ويشتبه العلماء المتخصّصون بدراسة كوكب المريخ منذ زمن طويل بأن الكائنات الحية البدائية تتوافق مع التحديات الجديدة عبر التسرّب إلى تحت السطح والتأقلم من خلال نموّها. واليوم، يحاول بعض العلماء أن يثبتوا، عن طريق أدلة واضحة وحيّة، وجود سيناريو مماثل محتمل على الأرض. علم الحشراتغاتان بورغوني من جامعة غنت في بلجيكا وهو عالم في الحشرات على وشك إنجاز اكتشاف كبير محتمل. كان قد بدأ رحلته منذ سنين قليلة بحثاً عن أصناف جديدة من الديدان البالغة الصغر والموجودة في كل مكان وتتمتع بقوة ملحوظة. وفسّر لي بورغوني بحماسة أنّ هذه المخلوقات متعددة الخلايا وتملك جهازاً عصبيّاً وجهازاً هضميّاً. وهي من بين أشكال الحياة الأكثر بدائيّة التي تملك نظاماً داخلياً ونظاماً خارجياً ونظاماً عصبيّاً بدائيّاً، كذلك فسر لي كيف تتناسل مع تزاوج ومن دون تزاوج. يعتقد بورغوني أنّ إيجاد هذه المخلوقات المعقدة التركيب حيّة قي أعماق الأرض سيكون الإشارة الدامغة الأولى إلى أنّه من الممكن إيجاد حياة بوجود البكتيريا ذات الخلية الواحدة وجراثيم أخرى تحت سطح المرّيخ غير المضياف، وعلى أجرام سماويّة أخرى... وهي أماكن لا تشرق الشمس عليها، فيما تغيب عنها بشكل كامل العناصر المتعلّقة بالأشعة الشمسية كافة. الديدان الخيطيّة والديدان الأنبوبية التي يصل طولها حتى ثلاثة أقدام، اكتُشفت قبل بضعة عقود في القاع المظلم من أعماق المحيطات أو بالقرب منه. لكن الآثار المترتبة عن اكتشافها هي أقل إثارة مما يتعلّق بالحياة خارج الأرض، لأن هذه المخلوقات المكتشفَة تتغذى على «طعام» ينمو بفضل الشمس ويسقط إلى قاع المحيط.البحث الذي يقوم به بورغوني كان قد قاده إلى الجزيرة الكاريبية الصغيرة سانت كروا وإلى المكسيك حيث النظام البيئي المرتكز على مادة الكبريت، وأخيراً إلى الفريق الجنوب أفريقي- الأميركي الذي كان رائداً في البحث عن البكتيريا في المناجم العميقة. وخلال السنتين الماضيتين، نزل بورغوني- الذي طالما حلم بأن يصبح رائد فضاء ولكنه اليوم يسير في الاتجاه المعاكس- إلى المناجم الجنوب أفريقية أكثر من 20 مرّة وتمكّن هو وزملاؤه من إيجاد عدد كبير من الديدان الخيطية وبيضها في مناجم على عمق 2.2 ميل. وجد معظم هذه الديدان ولكن ليس جميعها في آبار مغطاة، وتعلّم من خلال عينات سابقة عاينها أن المعادن التي تتصلب وتتحوّل إلى هوابط طويلة تنحت قبل ذلك خوارط يمكنها عندما تكون رطبة أن تشكل مسكناً للديدان الخيطية ولبيضها. لم يصدّق أحد تقريباً في هذا المجال (بمن فيهم اللجنة في جامعة بورغوني التي منحته التفرّغ) أن البحث عن الديدان الخيطية في المناجم سينجح لأن المعتقد الشائع -على الأرض- هو أن الديدان تعيش في التربة فحسب أو بالقرب من باطن الأرض. وكان بورغوني يأمل بأن يثبت أن الديدان الخيطية (على غرار الجراثيم) يمكنها التأقلم مع الحياة في أعماق الأرض وبأن يحدّد كيف وصلت إلى هناك، أو إذا كانت قد بقيت هناك لمدة طويلة تكفي كي تتطوّر وتتحوّل إلى كائنات فريدة. قال بورغوني وهو يحاول اجتياز الهوابط المتدلية من الجدران التي تبدو كجدران مصنع حديد ويفتّش في حقيبة ظهره الممزقة عن أدوات القياس والتجميع: «هذه جيدة، فعلاً جيدة». وبحذر شديد نزع مخاريط عدة وجمّع بعض قطرات ثمينة من مخاريط أخرى، وأضاف: «من الجميل أن تنظر إلى هذا النظام وتفكّر فيه». بعد ذلك، رحنا نتوجّه إلى هدفنا الأولي، إلى نفق مسدود آخر يبعد قليلاً عنا وفيه بئر يجري فيه ماء ساخن. وكان العالم الجيولوجي في منجم نورذام اتصل بهيردن ليبلغها بأنّه من الأفضل أن يأتي فريق بلومفونتين وينزل ليلقي نظرة قبل أن يفجّر هذا القسم بالديناميت.بعد مغادرتنا موقع «السفينة المحطمة» مشيت وراء الآخرين. إنه شعور مخيف جداً أن تتواجد في أعماق الأرض محاطاً من كل الأميال بالصخور، لكن لحسن الحظ كان النفق مستقيماً ومحفوراً بإحكام، فيما أدخلت التهوئة بعض الهواء النقي وأخرجت الغازات السامة. كذلك، ساعد مشهد العمال المتكرّر وصوتهم وهم يتنقلون في الأنفاق على إبعاد الإحساس بأننا في عالم آخر. وصلت إلى تقاطع، فاستدرت يساراً وراء الآخرين ودهشت بتيار هوائي ساخن مرّ بسرعة مفاجئة كما يمرّ القطار، فمددت يدي إلى الحائط لأحافظ على توازني، ثم تذكرت معلومة قرأتها تقول إن العمل في ظل حرارة كهذه يسبّب الهلوسات.تقدّمت ببطء نحو الباحثين والمسؤولين عن المنجم المجتمعين في المقدمة. كانوا قد علّقوا معدّاتهم على أنبوب حديدي يبرز من صخرة وراحوا يجمعون المياه من بئر حفرة العمال ليعرفوا ما هي الحال في داخل الصخور. وأظهر لنا ميزان الحرارة أن حرارة المياه هي 65.5 درجة في طرف الأنبوب. وأكّد ورنر لامبرشت وهو عالم جيولوجيا مناجم، أنّ الحرارة على عمق أقدام عدة في الصخور تقارب الـ76.6 درجة. وكان البخار يتطاير حتى من المياه المتجمّعة على أرض النفق.جلست على لوحة مهملة إلى جانب حائط النفق ورحت أشاهد. لم أجد حشرات أو عناكب أو حركة غير متوقّعة تترافق مع وجود كائنات، علماً أن بعثات سابقة أثبتت وجود حياة في هذا المكان بسبب الشقوق المائية الصغيرة على سطح الصخور وبسبب الهوابط التي تقطر ماءً، ومن يعرف ما هي الأسباب الأخرى؟. كذلك، اكتشف أونستوت قبل أربع سنوات جراثيم عدّة في أسفل مناجم ذهب عميقة في جنوب أفريقيا. إحدى هذه الجراثيم وُجدت في منجم نورذام بلاتينوم على عمق 1.2 ميل تحت الأرض وسمّيت بجرثومة «النجمة» نظراً إلى شكلها الذي يشبه النجمة ويمكنها من التقاط كمية أكبر من الغذاء للبقاء على قيد الحياة. كان من الصعب على العلماء الذين يعانون الحر الشديد البقاء في موقع الجمع النهائي، لكن الانسحاب أيضاً أمر صعب، فهم لا يعرفون متى قد يُستدعون للعودة من البعثة. كان عليهم القيام بفحوصات كثيرة من الفلاتر ليضعوها في أنابيب المياه المتدفقة على أمل جمع جراثيم غريبة وديدان خيطية أو أي شيء آخر أكثر غرابة. ولكن بما أن فرط الحماسة أدّى بهم إلى الإرهاق وضّبوا أغراضهم وجهّزوا أنفسهم ليتسلّقوا إلى الحجيرتين، فهم يعرفون جيداً أنه عليهم الحفاظ على طاقتهم لأنهم سيعودون في الرابعة صباحاً ليجمعوا الفلاتر.من المؤكد أنّ عمليات البحث الجوفية هذه هي كالبحث عن إبرة في كومة قش، فالمناجم ضخمة ومخابئ الجراثيم والديدان الخيطية صغيرة ومتبعثرة، لذلك لم يخب أمل بورغوني عندما لم تُظهر الفحوصات وتجارب الزرع الأوليّة في المختبر وجود ديدان خيطية في منجم نورذام بلاتينوم. وعلى رغم ذلك ظلّت ظروف هذا المكان تبدو مضيافةً لـ{ديدان» بورغوني الذي يعتبر أن الديدان الخيطية تلاحق الجراثيم من خلال شقوق الصخور في أعماق الأرض، ثمّ تتأقلم مع الحياة هناك. ظل بورغوني يستخرج العينات، وبعد أسبوع فقط، وفيما كان يقوم بعمله في منجم في دريفونتاين ربح الجائزة الكبرى: أربع ديدان خيطية بكامل صحتها مع بيضها في سبعة مناجم من بين 20 منجماً في جنوب أفريقيا، فراح يأخذ منها عينات لأكثر من ستة أشهر. فهل يغيّر هذا العالم فهمنا بشكل كامل حول الكائنات التي يمكنها البقاء على قيد الحياة في أعماق الأرض، وما هو تفسير وجودها هناك؟ بعد ذلك، غادر بورغوني إلى بلجيكا لتمضية بعض الوقت في مختبره في مدينة غنت. لم يكن مخططاً أن يعود إلى جنوب أفريقيا إلا أنّ المناجم ومع كل ما تخبّئه من كائنات أغرته وأعادته، لا سيما أنّه أقنع أونستوت بمرافقته ومساعدته في كتابة التقرير العلمي على أمل بأن يعرّف العالم إلى «ديدان من الجحيم». هذه المرة قرر بورغوني أن يضع فلاتر في الآبار لأسابيع أو لأشهر ليرى ما هي المخلوقات الأخرى التي قد تعيش في الصخور. كائنات مزروعةبعد ستة أشهر، كتب بورغوني وأونستوت وزملاؤهما تقريراً يصفون فيه للمرة الأولى وجود كائنات متعددة الخلايا على عمق ميلين ونصف الميل تحت سطح الأرض. كثير من الكائنات التي زرعوها بدأ بالتلوي والتكاثر في المختبر من دون تزاوج. وأجرى الفريق فحوصات ليرى إذا كانت هذه الديدان انتقلت من سطح الأرض إلى عمقها عبر أحذية العمال أو عن طريق امتزاج المياه «القديمة» في عمق الأرض مع مياه قريبة من سطح الأرض. فوجدوا أن الديدان الخيطية التي في الصخور تختلف عن تلك التي في الأنفاق، إضافة إلى أن المياه التي تستعمل في التهوئة وتنظيف المناجم تحتوي على مواد كيماوية من شأنها القضاء على الجراثيم والديدان الخيطية.تدعم هذه الملاحظات بحث بورغوني واعتقاده بأن الكائنات التي وجدها في الفلاتر تأتي من عمق الأرض وليس من على أحذية العمّال. وعلى رغم أنّ التقرير لم يُنشر بعد ولم تعلِّق عليه اللجنة العلمية وتنتقده، أكّد أونستوت وبورغوني في رسالة إلى صحيفة علمية أن «إيجاد ديدان خيطية على عمق كيلومترات تحت سطح الأرض هو كإيجاد «موبي ديك» في بحيرة أونتاريو».كم ارتاح بورغوني بعدما نجح رهانه الذي أرهقه جسدياً واستهلك كثيراً من وقته. والآن يمكنه أن يتوقّع حدوث مفاجئات عندما سيقوم العلماء بعمليات حفر جديّة على المريخ في المستقبل.نزهة في منجمأردت أن أرى هذه الأدلة بنفسي أو على الأقل أن أرى بيتها الجوفي. هكذا، وجدت نفسي أتحضر لأنزل إلى منجم شركة «نورذام بلاتينوم»، أي وراء نهر التماسيح الذي استحق تسميته عن جدارة. وكالعادة يطبق النظام اليومي على سطح الأرض، وهو نظام مهذب وواقعي للغاية. يعاين الجيولوجيون الذي يلبسون معاطف بيضاء معدات جديدة، ويتأكد المدراء من أن المناوبات تحصل كما هو مقرّر. حتى العمال الذين يصطفون في طوابير طويلة منتظرين رحلتهم إلى مكان عملهم كانوا يبتسمون ويتحادثون وبعضهم يترنّح على وقع الموسيقى الصاخبة الآتية من مكبّرات الصوت. العشب مقصوص والأرض نظيفة والمصنع الذي يعمل فيه خمسة آلاف عامل يطنّ. كان العلماء يرتدون معاطف ملصق عليها شريط مضاء ويضعون على وجوههم نظارات واقية وأقدامهم في أحذية مطاطية ثقيلة، وعلى رؤوسهم قبعات صلبة متوّجة بمصباح. وعلى أحزمتنا عدة سلامة إلزامية مربوطة تتضمن جهازاً للتنفّس من شأنه تصفية أول أوكسيد الكربون. وعندما أُدخلنا إلى حجيرة المدير ودخل عمال المنجم إلى حجيرة أخرى توقّفت الدردشة وأغلقت الأبواب، وانطلقت الحجيرتان برحلة في قشرة الأرض بسرعة 30 ميلاً في الساعة ووصلنا إلى المستوى السابع تحت الأرض. في الطريق سمعنا أصوات صخور تسقط وتضرب المصعد. توقّف المصعد واهتزّ بقوة وفتح خادمٌ الباب نصف فتحة ونزلنا إلى غرفة عالية السقف حفرها العمال تضمّ سكة حديد لقطار صغير جداً يحمل معادن خاماً. مررنا بجزيرة الضوء هذه برفقة مسؤولي المنجم وانطلقنا إلى الأقسام الخارجية من المستوى السابع. كنا بعمق 1.1 ميل تحت الأرض، يحيط بنا الظلام والصخور القاتمة. أذكر في هذا السياق، أن العلماء الذين ينتمون إلى مجموعة «الكيمياء الحيوية القصوى»، وأحدهم جنوب أفريقي وآخر بلجيكي والثالث إسباني، نزلوا مرات كثيرة إلى أعماق الأرض بحثاً عن أشكال حياة مغايرة لتلك التي نعرفها. إنها رحلة شاقة وخطرة جداً، لكن البحث عن «الإكستريموفيلز» يرسل عشرات من الباحثين إلى بيئات قاسية مماثلة حول العالم كالجليد في القطب الجنوبي الذي يبلغ عمقه ميلاً، والينابيع الساخنة والأنهار العالية الحموضة، وفوّهات المياه الحارة في قعر المحيطات. فكلمة «إكستريموفيلز» تعني حرفياً «محبو الأماكن القصوى» الذين يعتبرون عالمنا سامّاً. في منجم نورذام بلاتينوم تؤدي بك كل نزهة إلى أطراف المستوى السابع إلى نفق أكثر ظلاماً وأكثر سخونة. وكحبال بيت العنكبوت تأتي هذه الأنفاق من الوسط بطريقة مذهلة لا يمكن أن تفهمها للوهلة الأولى، إلا إذا قادك أحد إليها. وعلى الطريق الجافة، طين قذر تجمّع على أثر المياه المتسرّبة من تشقّقات الصخور تغرق فيه الأحذية وتختبئ الأنابيب والحبال التي ستقلّنا وتعيدنا إلى سطح الأرض. ويعمل نظام تهوئة ضخم على تخفيض الحرارة وضخّ الهواء وأحياناً المياه في أنابيب واسعة جداً ومخططة مصنوعة من نسيج رمادي اللون. وتعطي هذه الأنابيب الملصقة على أطراف الأنفاق معنىً بصرياً جديداً لعبارة «أحشاء الأرض». مضى الوقت بسرعة في ظل ظلام مشابه لظلام المريخ، ومررنا بمحطات تهوئة يصدر منها صوت طنين وبمحطات للاستراحة تعج بعمال قليلي الابتسام والتكلّم. بعض الأنفاق امتلأ بلافتات تحذّر من غاز الميثان أو من انزلاق الصخور أو من تسرّب الماء. وعرفت أننا اقتربنا من هدفنا عندما شعرت بارتفاع حاد في درجة الحرارة. وصلنا إلى مكان معتّم طريقه مسدود يضم مجموعة من المعدات التي يتم تركيبها بهدف وقف تدفّق المياه داخل النفق، إلا أن نجاحها محدود جداً. وبيّنت المصابيح الموضوعة على رؤوس العمال كيف أفسدت الحرارة والرطوبة هذه المعدات من جنازير وألواح معدنية وغيرهما، فبدت كسفينة غارقة منذ زمن طويل ولكن بدل الطحالب البحرية تملأ المكان تسرّبات كربونات الكالسيوم، وبدل السمك تجد الصدأ.