في الوقت الذي كان وزراء داخلية مجلس التعاون الخليجي يعقدون اجتماعهم الدولي الـ29 في الكويت ويناقشون سبل التنسيق وتبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية بهدف رصد تحركات وأنشطة التنظيمات الإرهابية وملاحقة عناصرها وتجفيف منابعها، كان دوي التفجيرات الإرهابية في بغداد على مقربة منهم ويترامى إلى مسامعهم!

Ad

عاد الإرهاب أشد ضراوة ووحشية وأخذ يستهدف المباني الدينية خاصة، مثل المساجد والأضرحة والكنائس بعملياته البشعة، من أبرزها مذبحة كنيسة "سيدة النجاة " في بغداد وراح ضحيتها أكثر من 60 قتيلاً، والتفجير الانتحاري بمسجد في بيشاور وأسقط 70 قتيلاً، استعاد الإرهاب عافيته ورجع أكثر فتكاً وأخذ يركز على المفاصل الرخوة بعد إحكام الحصار عليه وملاحقته، أخذ يطور وسائله ويبتكر طرقاً جديدة للاختراق والوصول إلى الأهداف بغية بث أكبر قدر من الترويع والذعر، إظهاراً للقوة والتحدي والمناورة والحضور وجذباً للأتباع، وكان من آخر وسائله الجديدة تفخيخ طرود الشحن الجوية، وهذا يشكل تحدياً أمنياً جديداً ويزيد القيود على حركة الناس وتنقلاتهم كما يعرقل انسيابية السلع والخدمات ويلقي بمزيد من العبء على الأجهزة الأمنية.

والتساؤل المطروح: لماذا عاد الإرهاب نشطاً رغم الملاحقة الأمنية الناجحة والتي أجهضت المئات من مخططاته وفككت المئات من خلاياه وقضت على الآلاف وقبضت على آلاف أخرى قدموا إلى المحاكمة؟!

الأجهزة الأمنية بدول المجلس أثبتت كفاءة منقطعة النظير في تصديها لجماعات الشر والفساد، قضت على خطورتهم وطهرت الخليج من عملياتهم الإجرامية وحققت الأمن والاستقرار، وأصبح أمام الإرهابي خياران لا ثالث لهما: إما أن يقتل وإما أن يفر إلى دول أخرى، ويبقى أن نقول إن الأمن- وحده- لن يستطيع تجفيف "منابع الإرهاب" طبقاً لما جاء في بيان وزراء الداخلية، ما لم يسانده جهد فكري وثقافي يشارك فيه جميع المؤسسات المعنية بصياغة الثقافة المجتمعية، لن يتمكن الأمن من اقتلاع "جذور التطرف" الغائرة في التربة المجتمعية ما دامت "ينابيع التطرف" تفيض وتتدفق، وهذا ما يفسّر عودة الإرهاب بصورة أكثر بشاعة وتوحشاً.

مازال الإرهاب نشطاً في مناطق عديدة في ديار المسلمين رغم كل الجهود الأمنية المقدرة، ومازال يجتذب إلى صفوفه شبابنا وبالذات بعض شباب الخليج واليمن ليصبحوا جنوداً ووقوداً لمخططاته الإجرامية، لا يمكن القضاء على الإرهاب وحماية شبابنا من الانزلاق إلى أحضانه إلا بالعمل الجدي على تفكيك بنية "فكر التطرف والغلو" التي تشكل بوابة "التنظيمات الإرهابية" أفكار التطرف والعنف والغلو وتحتل رؤوساً كثيرة في المجتمع الخليجي، ولها أبواقها ومنابرها ومواقعها الإلكترونية ومنظروها ومفتوها وشيوخها الذين يحرضون ويمجدون ويبررون "تفجير الذات" طريقاً للجنة ووسيلة لحماية كرامة الأمة ورفضاً للتبعية والاستسلام!

وبطبيعة الحال ليس كل متطرف إرهابياً ولكن كل إرهابي، أساسه فكر متطرف، فما التطرف؟ التطرف أو الغلو فكر ينشأ في العقل- أولاً- كما ينشأ فيه السلام والتسامح- شعار اليونسكو منذ 1945- وهو فكر إقصائي استعلائي يعتقد صاحبه أنه يملك الحقيقة كاملة ولا يقبل بنسبية الحقائق السياسية والاجتماعية.

ما مظاهر وسمات التطرف؟ للتطرف سمات أساسية: فرض الرأي على الآخرين، وعدم القبول بهم، والوصاية عليهم، وإساءة الظن بالمخالفين وتأثيمهم وتكفيرهم وتخوينهم، وقد ينتهي الأمر باستحلال دمهم، وهذه السمات إنما تنضح من معين واحد هو "ثقافة الكراهية"، فالتطرف آفة فكرية قديمة بدأت عند الخوارج الذين جسدوا أول تنظيم متطرف في التاريخ الإسلامي وخرجوا بسيوفهم على المجتمع الصحابي بحجة أنهم حكموا الرجال حيث لا حكم إلا لله، لكن لو اقتصر التطرف على صاحبه دون أن يتجاوز إلى التسلط على الآخرين لما كان الأمر مثاراً للاعتراض، بل قد يحمل في حالات على باب الورع والتحوط ومغالبة النفس على الأشد والأصعب، لكن مشكلة المتطرفين الأساسية أنهم لا يقنعون بتطرفهم، بل يريدون فرضه على الآخرين دون اعتبار لهم، بل يتجاوزون ذلك إلى التشكيك في عقائدهم والتفتيش في ضمائرهم وإلصاق تهم العمالة والخيانة بهم، وأنهم تغريبيون علمانيون يريدون هدم ثوابت الدين.

ومما يؤسف له أن تمنح جامعة إسلامية درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف لباحث كفَّر في رسالته "الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها" 200 مثقف عربي من دعاة الحداثة والعقلانية والتنوير! كيف تثمر الجهود الأمنية في استئصال فكر الإرهاب مع منح درجة الدكتوراه في التكفير من قبل مؤسسة دينية رسمية؟! عندما تزرع فكر الكراهية في نفوس طلابك تجاه المخالفين في الرأي السياسي أو التوجه الديني فإنك إنما تزرع بذرة التطرف المؤدية للعنف والمنتهية بالعمل الإرهابي... فالتكفير عنف شديد يشحن به نفوس غضّة لم تنل حظها من الحصانة والمناعة، وهو جناية التعليم الأحادي المغلق على طلابنا!

وثاني مشاكل المتطرفين، أن الغلو لو كان مقصوراً على ثوابت الدين المتفق عليها بين المذاهب الإسلامية والسنّة والشيعة لكان أمراً محموداً، لكن المتطرفين المعاصرين عامة لا يشغلهم شيئ إلا الفرعيات والخلافيات والقشور والمظهريات، يتشددون حيث لا ينبغي أن يكون محلاً للتشدد ولا ميداناً للاحتساب، يتوسعون في الحظر والتحريم ويثيرون معارك حول أمور خلافية، يثيرون الدنيا ولا يقعدونها لأن كاتباً قال: النقاب من العادات لا من العبادات، يستفرغون جهودهم في معارك عقيمة حول تحريم حلق اللحى وتقصير الثياب والغناء والتصوير وعمل المرأة واختلاطها وعدم التشبه بالكفار وحرمة الموالد وتهنئة النصارى وإهداء الورود للمرضى! لا يشغلهم قضايا الأمة الرئيسة: حقوق الإنسان وكرامته، وقضايا الديمقراطية والحرية والشورى والعدالة الاجتماعية! لا يعنيهم جوهر الدين المتمثل في المودة والتسامح و" قولوا للناس حسنا" و"الدين المعاملة"، وقضايا التنمية والإنتاج والنهضة.

فكر الغلو وثقافة الكراهية يشكلان البنية التحتية للعنف والإرهاب، لكن "العنف" يختلف عن "الإرهاب" في أن الإرهاب يستهدف القتل بالجملة أو القتل العشوائي لأكبر عدد من الناس من غير تمييز، أما العنف فقد يكون معنوياً أو لفظياً أو مادياً لكن دون أن يصاحبه بث الذعر والترويع أو التباهي به كما يفعل الإرهابيون.

ولكن كيف يبدأ التطرف وكيف تشحن النفس به؟! يبدأ التطرف بزرع " فكر الكراهية " وثقافة الكراهية في نفسيات عندها "القابلية" للتشدد نتيجة ضعف الحصانة الدينية السليمة وافتقاد المناعة الفكرية العاصمة عن الانحراف، تزرع الكراهية في تلك النفسيات البائسة تجاه مجتمعاتها العربية والإسلامية بحجة أنها ترضى بحكم الطواغيت والقوانين المستوردة ولا تحتكم إلى شرع الله، وتجاه الأنظمة السياسية العربية عامة لأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية بحسب المفهوم الضيق المتشدد كما فعلت حكومة "طالبان"، ولأنها تسمح بخروج المرأة واختلاطها، ولأنها تنقاد للغرب الصليبي الكافر والمتآمر ولأنها تضطهد الإسلاميين المجاهدين والدعاة الحقيقيين وتعذبهم في سجونها خضوعاً لإملاءات الغرب وأميركا، كما تزرع الكراهية في تلك النفوس المتوترة تجاه الغرب وأميركا، بل العالم أجمع لأن كل هؤلاء يتآمرون على الإسلام والمسلمين ويتربصون بهم الدوائر ويحتلون ديار المسلمين ويستحوذون على مواردهم وثرواتهم!

ويبقى أن نتساءل: متى وكيف يتحول المتطرف إلى إرهابي؟! الحياة عزيزة على الإنسان وهي نعمة الخالق عز وجل علينا، ولا يمكن لإنسان أن يتخلص من هذه الحياة، ويتحول إلى قنبلة مفخخة أو طرد متفجر أو حزام ناسف إلا تحت تأثير قوة غلابة، هي "عقيدة" تستحوذ على عقله ونفسه، تزين له أن "تفجير الذات" قمة الشهادة والفداء والبطولة! لكي يصبح المتطرف إرهابياً يجب أن يمر بـ"مثلث التطرف" المتمثل في:

1 - عقل مشحون بالعداء والكراهية ضد الآخر، وضد الحياة والأحياء عامة.

2 - نفسية قلقة ومتوترة، عانت عذابات الطفولة وقاست خبرات تنشئة مؤلمة في بيت افتقد الحنان والدفء، أو بيت مفكك بسبب أب معدد لا يعدل، ولم يحسن التربية الآمنة ولم يحبب أولاده بالحياة وحب الناس، لقد تأملت في حياة الشعوب ووجدت أن الشعوب المقبلة على الحياة والحب لا تنتج- أبداً- مفجرين.

3 - بيئة أو مناخ حاضن لفكر الغلو عبر منابر ومواقع وفتاوى تحرِّض وتزرع الكراهية وتبرر الإرهاب بأنه رد فعل لمظالم الأنظمة العربية ومظالم الغرب وأميركا تجاه المسلمين!

"الخوارج" القدامى هم السلف الصالح لـ"خوراج" عصرنا، لكن القدامى كانوا أكثر رحمة بالمخالفين، أما خوارجنا فهم أكثر وحشية وضراوة مع أنهم أسعد حالاً من القدامى لأنهم يجدون فضائيات ومنابر ومواقع، بل دولاً تحتضنهم وتتبنى طروحهم العدمية!

كان هذا بعض ما ورد في تسجيل حلقة عن التطرف والإرهاب ضمن برنامج "كشكول" الذي يقدمه الإعلامي الكويتي المتميز يوسف عبدالحميد الجاسم عبر فضائية "الوطن" الكويتية. قال عالم دين سعودي "الغلو وفكر التطرف" أشد خطر يواجه الأمة في عقيدتها وحياتها، وأعتقد أن هذا الكلام صحيح تماماً.

* كاتب قطري