إن ما يحصل في الكويت اليوم، وبكل اختصار، هو ردة دستورية، وتخلف ديمقراطي، وتراجع على صعيد العدل والحريات من غالبيتنا، إن لم يكن جميعنا، حتى لو قيل عكس هذا، وعلى المخلصين الشرفاء ممن يسعون إلى التصدي لما يجري من انحدار أن يدركوا هذا، ويجعلوه أساسا ومنطلقا لكل تحركاتهم.

Ad

أكثر ما يخيفنا- نحن الكويتيين- فكرة حل البرلمان حلا غير دستوري، وتعليق الدستور، فهذا الأمر يعني بالنسبة لنا تغير شكل الحياة التي مارسناها منذ عشرات السنين حتى صارت تجري منا مجرى الدم، وضياع الشيء الوحيد الذي كان يميزنا عن محيطنا، ويشعرنا بأننا دولة ديمقراطية متقدمة بعض الشيء حقا، وإن تخلل الممارسة بحد ذاتها بعض الشوائب، لهذا السبب، وعندما حصل هذا الأمر في منتصف الثمانينيات، كانت ردة الفعل الشعبية شديدة جدا دفاعا عن الدستور والحياة البرلمانية، وعندما صار الغزو العراقي بعد ذلك وخرجت القيادة السياسية إلى السعودية، وكان مؤتمر جدة الشعبي، كان الشرط الشعبي الأساس والذي أجمعت عليه كل الشرائح الكويتية، للالتفاف حول القيادة هو التمسك بالدستور وعودة البرلمان المنحل، فكان هذا.

لذلك فإني أستطيع أن أقول جازما إن النظام قد صار يرى أبعاد هذا الأمر بكل وضوح اليوم، ولذلك فلا يفكر حتى بالتلويح به، ليس اتقاء لردة الفعل الشعبية التي لا يمكن تقدير حجمها فحسب، خصوصا بعد تغير الكثير من مفردات الممارسة السياسية وأدواتها، إنما للحفاظ على صورة ومقام الكويت خارجيا، في ظل عصر الإعلام المفتوح، والمنظمات والهيئات الحقوقية الدولية المستقلة، وسيكون معيبا جدا أن تظهر الكويت بمظهر الناكص على عقبيه، المتخلي عن خيار الديمقراطية، في زمن تتجه فيه كل دول العالم بلا استثناء، أو تزعم ذلك على الأقل، نحو هذا الخيار! إذن فلست في قلق كبير من هذا.

المقلق حقا هو أننا في مرحلة أخطر من ذلك. مرحلة تتمثل في أن النظام يقول إنه متمسك بالدستور والممارسات القانونية، لكن الواقع عكس ذلك، والممارسة على الأرض بعيدة عن هذا، ولب الخطورة هنا، أن آليات الاختصام حول هذا غير واضحة ولا محددة بشكل صريح، والمواد الدستورية التي تم التجرؤ عليها وتجاوزها أخيرا كثيرة، ولا مجال للخوض فيها، ومع ذلك فغير واضح كيف يمكن الاحتجاج على ذلك والدفع بعدم جوازه، ومن هي الجهة الحكم في مثل هذا الأمر، وما آليات الوصول إليها، وما الدور المتاح للشعب على هذا الصعيد، سواء كجماعات أو كأفراد، باعتبارهم مدار الأمر كله؟!

مشكلتنا الأساسية اليوم، وقبل هذا كله، أنه لا يكاد إيمان حقيقي خالص يوجد لدى مختلف الأطراف بالدستور، وأعني هنا الدستور كفكرة جوهرية، لا كنصوص جامدة. فالكل يقترب من الدستور ويبتعد عنه بمقدار ما يجد في تلك النصوص ما يعزز موقفه ويلبي مصالحه، في حين أن الدستور قد تم وضعه أساسا كفكرة سامية لضمان الحرية والعدل والحقوق جميعها لكل المواطنين بتساو ودون تفضيل على أي أساس، ولا يمكن منطقا أن يكون فيه ما يصح أن يحمل أو يفسر على عكس هذا. وكل من يقوم بتحميل الدستور أو تفسيره بما يتعارض مع قيم الحرية والعدل، لتغليب سلطة أو جماعة أو فئة على الأخرى، أو النيل والانتقام من خصومه بزعم «ألا حرية لأعداء الحرية، ولا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية»، يكشف في الحقيقة عن عدم إيمانه بجوهر الممارسة الدستورية، حتى إن ادعى عكس ذلك!

إن ما يحصل في الكويت اليوم، وبكل اختصار، هو ردة دستورية، وتخلف ديمقراطي، وتراجع على صعيد العدل والحريات من غالبيتنا، إن لم يكن جميعنا، حتى لو قيل عكس هذا، وعلى المخلصين الشرفاء ممن يسعون إلى التصدي لما يجري من انحدار أن يدركوا هذا، ويجعلوه أساسا ومنطلقا لكل تحركاتهم.