التنويم المغناطيسي... متى يلجأ إليه الأطبّاء؟
لا يزال التنويم المغناطيسي Hypnosis، حالة يكون فيها الذهن هادئاً ومسترخياً تماماً، يثير الريبة والتساؤلات، حتى أن البعض يعتبره ضرباً من السحر والشعوذة. فماذا يحصل حين ينام المريض مغناطيسياً؟ ما إن نفكّر في هذا الموضوع، حتى تتبادر الى ذهننا الصور الغريبة التي تُظهرها الأفلام السينمائية عن جلسات التنويم المغناطيسي. على رغم ذلك، تُعتبر هذه التقنية ظاهرة علميّة حقيقية باتت مستخدمة في الطب أكثر فأكثر. فما ظروف اللجوء اليها؟ تنقسم آراء الخبراء حول هذه التقنية بين مؤيّد ومعارض. فيحبّذها الأطباء في بلدان كثيرة، فيما يتحفظ بعض الدول عن استخدامها ولا يعترف بجدارتها العلمية. على رغم ذلك، استحوذ التنويم المغناطيسي على اهتمام بعض الأطباء النفسيين منذ حوالى قرن من الزمن. ولم يتوانَ أطباء معاصرون عن الإشادة بفاعليته، ونجحوا في استخدامه لإجراء جراحات تجنّب المريض الخضوع الى بنج عمومي قد تكون آثاره مزعجة على الجسم.
لمحة تاريخيّةتُنسب بدايات العلاج بالتنويم المغناطيسي الى الطبيب النمساوي فرانز أنطوان ميسمر، الذي استخدم هذه التقنية في مطلع القرن الثامن عشر. في هذه الحقبة، كان الاعتقاد سائد بأن الأمراض ترتبط بظاهرة المغناطيسيّة: فيؤمن المرضى بقدرة المعالج على إزالة العوارض المرضيّة حين يلمسهم. وقد نجح الأطباء على مرّ الجلسات في إثبات أن المريض يستطيع التواصل مع المعالج فيما يغطّ بالنوم.جيمس بريد، الطبيب الجراح البريطاني، هو أول من استخدم مصطلح التنويم المغناطيسي عام 1842. وقد أوضح أن هذه الحالة مغايرة للنوم، فهي مجرد استجابة جديدة يمكن دراستها علمياً. وسمحت دراسات لاحقة في فرنسا بتطوير هذا المصطلح. كذلك، استعمل البروفسير شاركوه هذا الأسلوب في دراسته حالات الهستيريا وانكبّ على سلسلة أبحاث تمحورت حول التنويم المغناطيسي لاقت اهتماماً كبيراً. وبعد وفاته، تلاشى استخدام هذه الطريقة في الطب الى أن ظهرت دراسات أخرى أجراها ميلتون إريكسون. ميلتون إريكسونوُلد في الولايات المتحدة عام 1901 وتوفي عام 1980. هو الطبيب النفسي الذي اقترح مقاربة جديدة للتنويم المغناطيسي. وقد أدت جهوده الى دراسة ظواهر التنويم الكلاسيكية وكيفية تطبيقها علاجياً. من جهةٍ، يقوم مبدأ إريكسون العلاجي على أن المريض يملك في داخله قدرات كامنة ليحلّ مشاكله بطريقته الخاصة وليستجيب الى الحوافز المختلفة التي تحيط به. ومن جهةٍ أخرى، عوّل إريكسون على أنّ التنويم المغناطيسي يختلف من شخص الى آخر. إذ لا طريقة علاجيّة واحدة تنطبق على الجميع، بل يجب البحث عن وسيلة تسمح بالتطرّق الى المشكلة لاعتماد العلاج المناسب. يمكن القول إن دراسات إريكسون والطرق الجديدة التي اقترحها أخرجت التنويم المغناطسي من الظلمة التي كانت تكتنفه وغيّرت الصور التي يرسمها الناس عنه: لا يقدم ساحر أو غورو على استخدام هذا الأسلوب بل عالم حقيقي يطبّق نظرية طبيّة. تميّز إريكسون بأنه بنى مقاربته انطلاقاً من تجربته الخاصة. فعندما كان في سنّ الـ17، أصيب بشلل الأطفال، فاتبع طرق المعالجة التي ابتكرها بنفسه بعد أن جرّبها أولاً. ساعدته أيضاً دراساته في البرمجة اللغوية العصبية Neuro-Linguistic Programming (NLP)، مجموعة أساليب تعتمد على مبادئ نفسية هدفها حل بعض الأزمات النفسية ومساعدة الأشخاص على تحقيق نجاحات وإنجازات أفضل في حياتهم. بالإضافة الى ذلك، تعاون إريكسون مع الباحثين في مدارس مختلفة وعمل على تطوير أدوات خاصة بالتواصل مع اعتماد مصطلحات معيّنة وحركات ونبرات صوت، أيّ ما يُعرف اليوم بالتواصل الشفهي. متى يُستخدم؟يلجأ الأطباء الى التنويم المغناطيسي:• لمعالجة الحالات النفسية والعقلية حسب درجة خطورتها. فيقوم الأطباء، في هذا الإطار بتنويم المريض مغناطيسسياً للتوصل الى نبش الذكريات الكامنة في لاوعيه والتي ترتبط غالباً بصدمات نفسيّة تعود الى مرحلة الطفولة. • للتخفيف من الآلام. يجد الأطباء في التنويم المغناطيسي وسيلة جديدة للحدّ من الأوجاع. خلال الجلسة، يفرز الجسم الإندورفين Endorphin، ما يسمح للطبيب بإجراء فحوصات طبيّة دقيقة بسهولة من دون إزعاج المريض. ويعتمد نجاح هذه التقنية على خبرة الشخص الذي يمارسها.• لمساعدة المريض على الاسترخاء، لا سيّما إذا كان يشعر بالقلق أو الخوف، فيتيح التنويم المغناطيسي للعقل الفرصة للتركيز أكثر والبقاء منفتحاً على الاقتراحات. قد تظهر فاعليّة هذه الطريقة مع الأطفال أكثر فهم يستجيبون للصورة الجميلة والموسيقى الهادئة. عدد الجلسات تُستهلّ جلسات التنويم المغناطيسي كافة بمحادثة مهما كانت المقاربة النظرية التي يعتمدها المعالج. وتنقسم عادة الى ثلاثة أجزاء أساسية:1 - الاستمالةينتقل المريض في هذه المرحلة الى حالة الوعي المتبدّل. من المهمّ أن يدرك المعالج معلومات أساسية عن المريض (كاستقصاء الهدف الذي يدفعه الى الخضوع للجلسات وعمر المريض ومحيطه ومعلومات عن سجلّه الطبي). يطلب الطبيب المعالج، غالباً، من المريض استرجاع ذكريات يحبّها وصبّ كلّ تركيزه عليها. قد يتوصّل المريض الى ذلك بمفرده أو بعد رؤيته صورة معيّنة أو استماعه الى الموسيقى. تجري الجلسة في جوّ هادئ، إذ يجب أن يكون المريض مسترخياً تماماً. يشار الى أن جلسة التنويم المغناطيسي الطبيّة لا تؤدي الى فقدان الذاكرة كما يعتقد البعض. على العكس، ينبغي على المريض إنعاش هذه الذكريات لاستخدامها لاحقاً في الجلسات الأخرى. 2 - الغشية تعرَّف الغشية على أنها حالة من الوعي يتوجّه فيها الانتباه نحو الداخل (من أفكار ومشاعر). وتتّصف بالأهمية فهي تسمح بالوصول الى العقل الباطن. فيشتِّت الطبيب المعالج تركيز العقل الواعي كي يتمكّن من التسلّل الى اللاوعي. يبعث المعالج إيحاءات إيجابيّة ومشجّعة، ليساعد المريض على الاسترخاء. غالباً، يتكلّم المعالج بصوت خافت ليحافظ على حبل أفكار المريض.3 - الاستيقاظ من النوميقترح المعالج على المريض تذكُّر ما جرى لاستعادته ثانيةً والاستفادة منه في الجلسات الأخرى. ويساعده على إعادة التواصل مع العالم الخارجي عبر الحواس وأصوات محيطه، كذلك يرفع المعالج نبرة صوته ويعمد على التكلّم بطريقة أسرع. شعور المريض بعده: • يعجز المريض عن تحديد الوقت الذي أمضاه تحت تأثير التنويم المغناطيسي. • يشعر بارتخاء في العضلات حتى لو قام ببعض الحركات الفجائية.• يحسّ لفترة وجيزة أنه انفصل عن ذاته، فأصبح بإمكانه مشاهدة نفسه من منظار خارجي. • يشعر بتغيّر في حواسه قد يرافقه بعض الألم.• يصيبه بعض الهذيان.ظروف استخدامه:• لمعالجة حالات القلق والتوتّر. يعاني المرضى غالباً، من اضطرابات نفسيّة وجنسيّة أو رهاب ناجمة عن صدمات نفسيّة قديمة.• لحثّ المريض على الإقلاع عن التدخين. يربط الطبيب في هذا الإطار فكرة التدخين بشعور بشع كالغثيان مثلاً ويحاول إقناع المريض بفكرة أن التدخين لا يبعث أي شعور باللذة.• للحدّ من الشراهة. يسعى الطبيب الى مساعدة من يعاني البدانة ولا يستطيع الكفّ عن تناول الطعام.• للمساعدة على الاسترخاء. يتبع الطبيب المعالج هذه الطريقة مع المرضى الذي يعانون من الضغوطات النفسيّة. كذلك، يساعد التنويم المغناطيسي على علاج بعض الأمراض:• ضغط الدم المرتفع أو خفقان القلب السريع.• الربو والحساسية الجلدية.• اضطرابات في الجهاز الهضمي.• أمراض نسائية.• التشنّجات وآلام أسفل الظهر.فضلاً عن ذلك، يحلّ التنويم المغناطيسي في بعض الحالات محلّ البنج، لتفادي إخضاع المريض الى البنج العمومي والحدّ من آثاره الجانبيّة. كذلك، يُستخدم لتسكين الآلام على نطاق واسع. واستُخدمت هذه الطريقة أيضاً في الجراحات التجميلية أو لمعالجة الحروق البالغة.تسكين الألم بالتنويم المغناطيسي hypnosedation: ليس هذا الأسلوب شائعاً في المستشفيات لأنه يتطلّب تضافر الجهود بين الفريق الطبي الذي يجب أن يتمتّع بكفاءة عالية وبين المريض الذي ينبغي أن يكون مقنتعاً بالفكرة ومتحمّساً لإجرائها. غالباً، لا يتمّ اللجوء الى التنويم المغناطيسي إلا بطلب من المريض (فيكون على اطلاع تام بالمعطيات كافة)، أو بناء على اقتراح الطبيب الجراح أو طبيب البنج. تُستخدم هذه التقنية في عيادات طبيب الأسنان، وإذا كان المريض لا يتحمّل الخضوع الى البنج العمومي، ولمعالجة الأمراض المزمنة خصوصاً لدى الأطفال. يشار الى أنّ التنويم المغناطيسي لا يعني حالة نوم كامل. بدأ الأطباء باستعمال هذه الطريقة بصورة منتظمة في الحرب العالمية الثانية لمساعدة الجنود المصابين باضطرابات نفسيّة نتيجة المعارك الضارية. لكن لا يقبل بعض الأطباء على استعمال هذه الطريقة لأنهم، على رغم أنها تخفّف الشعور بالألم، يجهلون طريقة عمل الدماغ خلال التنويم المغناطيسي. فإذا كان هذا الأمر مرتبطاً باللإندورفين Endorphin، هرمون يعدّ أحد أهم مسكنات الألم التي يفرزها طبيعياً جسم الإنسان، يدرك الأطباء أن نسبة الهرمونات المسكّنة تنخفض خلال التنويم المغناطيسي ولا يعجزون عن تحديد السبب. فضلاً عن ذلك، ينبغي الحفاظ على العلاقة الشفهية خلال الجلسة ما قد يتّسم بالصعوبة لا سيّما في حالات المرض المتقدّمة. ويظلّ المريض في التنويم المغناطيسي بكامل وعيه لكنّه يعجز عن تحديد الوقت.طريقتان بارزتاناستخدم الطبيب النفسي المشهور سيغموند فرويد والرائد في مجال التحليل النفسي، التنويم المغناطيسي بصورة منتظمة لأكثر من عقد من الزمن قبل أن يتخلّى عنه. كان يلجأ الى هذا الأسلوب للوصول الى الزمن الماضي، ما يسمح باسترجاع الذكريات المنسيّة لدى المريض. مقاربة فرويد متسلّطة، فهو يعمد الى مخاطبة المريض بطريقة صارمة وإعطائه الأوامر. خلال الجلسات، وجد فرويد صعوبة أكبر في تنويم المرضى العقليين مغناطيسياً ولاحظ أنه ليس من الضروري أن تكون الغشية عميقة لإحراز تحسّن. يقرّ الاختصاصيون في هذا المجال بأن التنويم المغناطيسي ساهم بصورة كبيرة في تطوّر المقاربات التي وضعها فرويد الخاصة بالاضطرابات النفسيّة والأمراض العقليّة. في نهاية المطاف، تخلى فرويد عن هذا الأسلوب لأنه وجد أنه لا يمكن الوثوق به للوصول الى الحقيقة، لا سيّما أن المريض قادر على الكذب خلال الجلسات. بحسب إريكسونتعرّف هذه الطريقة على أنها تقنية طبية أكاديمية تسمح بوضع مريض في حالة يقظة ونوم تناقضي في آنٍ. تسمح هذه الحالة للطبيب بالوصول الى بعض المصادر في اللاوعي التي تفتح الآفاق أمام أساليب علاجية تساعد على تخفيف الألم خصوصاً. تتّسم هذه المقاربة بمرونة أكبر وقد يبدو للوهلة الأولى أنها تقتصر على محادثة بين الطبيب والمريض فحسب. يجب أن يبدي المريض استعداداً للخضوع لهذه الطريقة المعالجة من دون أن ينتابه القلق أو الخوف. ومن المهم أن يكون مسترخياً ليتمكّن المعالج من الوصول شيئاً فشيئاً الى اللاوعي، وسيشعر المريض بأن عليه إيجاد الحلول للمشاكل بنفسه. لذا، ينبغي أن يكون المعالج على وفاق مع مبادئ المريض وألا يتعارض مع طريقة تفكيره، ليتمكّن من مساعدته في الحفاظ على حالة من الوعي. يظهر الفرق الكبير بين فرويد و إريكسون في أن هذا الأخير مقتنع بأن اللاوعي مصدر إيجابي لا يشوّش على حياة الانسان، لكن يجهل المريض قسماً كبيراً منه. فإذا أدرك هذا الأخير كيف يتحكّم بلاوعيه، يمكنه بالتالي استخدامه لمصادر خاصة للشفاء من دون أن يضطرّ لفهم آلية العلاج.