كانت طفولتي ليلية حقاً بحيث بدا لي أن الظلام الذي يُحيط بالأشياء وكائنات البلدة لن يجف أبداً، كنتُ في العاشرة أو أكبر بقليل في بلدةٍ لم تعرف سوى قسوةٍ صارمة: الليل والخوف.
هكذا تذكّرتُ. لكنني أعرف الآن أن هناك أشياء لا تحدث إلا في الداخل، وتظل هناك مثل مياه حبيسة لزمن طويل قد يكون الدهر كله، ثم بعد ذلك تبدأ اللعنة، لعنة الكوابيس والأحلام وهي تفيض في الكبر، في آخر العمر، دون أن يوقفها شيء. عندها يهرب الكلام وتحل محله لعثمة طويلة ومرهقة.كانت المقبرة القريبة من البيت واحة حقيقية للرعب أو هكذا كنتُ أتخيل آنذاك وأنا في العاشرة. مقبرة مفتوحة في هواء طلق، لكنها محاطة من بعيد بجبال موحشة. كان الزمن يمر بطيئاً حاملاً معه حيوات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها موغلة في الحزن، حزن قديم وتلك صفة سوف لن تفارقني أبداً أينما ذهبت. كنتُ وقت ذاك راعياً صغيراً يقود في ساعات الصباح الأولى قطيعاً كاملاً من الخراف الوديعة إلى البراري. هناك أعشاب ونباتات برية بعد الأمطار. هذا أمرٌ يعرفه الجميع لكن حينما أعود إلى البيت عادة ما أكون متعباً وقليل الاكتراث. كان الموت يكاد يكون أمراً طبيعياً. الموت بحد ذاته لم يكن أمراً مخيفاً. إن رؤية وجه رجل أو امرأة ميتة يشبه إلقاء نظرة عابرة في المرآة. حسناً كانت البلدة رهينة ليل طويل وكانت المرأة في الحادية والعشرين هكذا خمنتُ وأنا صبي صغير.كانت المرأة تتردد إلى المقبرة وفي بعض الليالي تتوقف هناك صامتة دقائق ثم تغادر المكان، كنتُ أظن أن المرأة إنما كانت تقف هناك كانت تتوسل أن يكون شعورها بالفقدان أنضج ما يكون تحت سماء مليئة بالنجوم. لكن ما حدث بعد ذلك يُشبه تعاقب الفصول لأنني أتذكر أن المرأة ذاتها بدأت تتردد فيما بعد إلى بيتنا. تأتي في المساء وتبقى مع أمي وهي تتحدث ساعات طويلة. في البداية لم أفهم شيئاً لكن فيما بعد فهمتُ بطريقة لا تخلو من غموض أنها أرملة وحيدة وكان زوجها المُعمر قياساً بعمرها قد مات حديثاً وعرفتُ فيما بعد أيضاً أن للمرأة اسمَ (حاء ميم). اسم عندما أتذكره الآن تنتابني رعشةٌ وارتباكة تُشبه ارتباكة البدايات، كان لها وجه غلام يافع بعينين أسيانتين ونهدين صاخبين وقدمين صغيرتين كأقدام النساء الصينيات في القرن التاسع عشر. هل هناك موت رمزي؟ هل كنت جاداً عندما كنتُ أظن أن موتي الرمزي كان يكمن في تينك الشفتين الثملتين تقريباً. سيحدث هنا شيء مربك وغير مفهوم لأن (حاء ميم) لم تكتفِ بالزيارة فحسب، بل كانت تبيتُ في المنزل أيضاً. أتذكرُ تلك الليلة الصيفية الخانقة والنجوم في السماء تضيء مثل يرقات صغيرة عندما تمدد الجميع فوق سطح البيت. الأم أولاً ثم الأخوة الثلاثة وفي الأخير في الزاوية اليسرى (حاء ميم) وأنا الصبي الذي كنتهُ آنذاك.كان الأب الغائب دائماً يعمل حارساً ليلياً في مخزن للمؤونة تابع لمعسكر الجيش الإنكليزي في البلدة المجاورة، الأب الذي لا يظهر إلا في الصباح كان قد قارب الستين، مرت ليلتان مبهجتان تحت سماء كثيرة النجوم، كانت الحكايات العجيبة تكر من فم الأم إلى أن يقفل عيوننا ملاك النوم. لكن كيف أتت تلك الفكرة الشيطانية التي دارت ثم استوت في رأس حاء ميم؟ أفكر الآن في الليلة الثالثة عندما عمدتني موجة دافئة من الأنفاس، ما الذي يمكن أن يقال هنا؟ لا شيء. صمت هائل يتجمع في الروح مثل بخار في زجاج النافذة.
توابل
ماذا يفعل الراعي الصغير تحت النجوم
09-03-2011