لم ألحظ بسمات في العيون التي كانت تحمل دمعاً مكتوماً، والشفاه كان يغلب عليها الغضب، فلا ضحكات تقطع شعارات المتظاهرين. تعجبت! أين البسمات الذي تتغلغل عادة بين تظاهرات العرب؟ ومتى وكيف غابت عنها، حتى عن تلك التي ترفض القمع والعبودية؟ وأين ليوث العرب التي لا تبرز أنيابها إلا لتبتسم؟ حاولت التدقيق، فقرأت في أسفل الشاشة أن المسرح هو تونس. وعلى حد علمي، فإن تونس دولة عربية تقع في شمال إفريقيا، وسمعت أنها تحتل تقريباً المرتبة 170 بين الدول، في مؤشر الحرية. فكيف يجرؤ المواطنون على الغضب الصرف؟ بدأت أشك في نفسي، فربما كنت أهذي وربما أن تونس بلد غير عربي، فغيرت القناة إلى قناة اسمها «تونس» لأسمع لغتها، فإذ بـ»أبي هول» يذيع نشرة إخبارية عن «صالون استقبال». فتيقنت أنه الإعلام الرسمي العربي، وأن مسرح الغضب هو تونس العربية! في قديم العرب القريب، وتحديداً في أوائل القرن العشرين حتى الستينيات منه، أثقِلَت الاحتجاجات بالغضب دون غيره، ولم تكن البسمات شريكة في التظاهرات، وما امتزج المرح بالغضب أبداً. وبعد أجيال من الحلم والأمل، تلاشت مسببات الغضب ودوافعه، فأصبحت شبه مستحيلة، واعتاد المواطن العربي على الدم اليومي، يعيش معه ويفرح معه ويمرح على جوانبه، حتى خلال التظاهر والاحتجاج.
على مدى أكثر من 60 عاماً، تدهور الأمل عند العرب، وتكسّر على أرصفة القمع المنظم، ليتحول تدريجياً إلى ترف لا ضرورة له في مراحل حياة الفرد ومفاصلها. فالقناعة بالحال أكثر أمناً من التهور طلباً للحياة المشرفة، وهي قناعة أصبحت مع الوقت طوعية، صنعتها التجارب والأحداث، وتولى اليأس ترويضها بمهنية واحتراف. وبالتالي أصبح الغضب «واعياً» والاحتجاج مدروساً، فظهر عند العرب تطور بيولوجي حصري، هو القدرة على لجم الإحساس اللاإرادي، وحبس الدمع المتأهب في المآقي. في بحر الظلم والهموم، لا تظهر عند العرب قطرات غضب صرف، وتركد الدماء في شرايينها على مساحة العمر، وحتى في حضيض الحياة. وإن شاءت الأقدار أن يتداعى قوم للاحتجاج، تكثر البسمات على جوانب التظاهرات ويتدافع «الغاضبون» بمرح أمام العدسات، حتى أصبح المشهد «ماركة مسجلة» للعرب في الألفية الثالثة.إن تحليل حياة المواطن العربي يشير إلى حقيقة مخيفة: الحياة تكدس للأيام والتطلعات آنية، وإن جدّ الفرد لمستقبله ومستقبل أولاده، لا يلقى نظاماً يجدّ لصنع دولة له وللأجيال المقبلة، قائمة على الحرية والأمن الاجتماعي والتنمية المستدامة، ولا شك أنه نادراً ما تفجرت ثورة من براكين الحرمان، فهي براكين هامدة تمنع الثورات. وبين الفقر والجمود علاقة سببية تخطها الحاجة، وتثبتها لقمة العيش، لكن العجب أن هذا المواطن يزعم أنه من منطقة متأصلة في التدين، وهو يعتبر نفسه «لا يخاف إلا الله الواحد الأحد»، إلا أنه في الحقيقة يرتجف أمام الحكام وسلطاتهم، مع أن منطق التدين الحقيقي يفتح قناة مباشرة نحو الحرية، لأنه ينبذ الاستعباد، ويحرّم التسليم للحاكم إلا بما يقتضيه العقد الاجتماعي الشفاف والعادل والسويّ.في تونس، منذ غابت البسمات تماماً عن شفاه أي متظاهر وواجه «بو العزيزي» النار بالنار، بدا أن الغضب أكمل نصابه ومسبباته، فأعلن شعب تونس العربي الطلاق مع شعوب تخاف الحكام ولا تخاف القهر والجوع، وتجرؤ على الوجع وترتجف من نظرات السلطة.لكن في خضم «ياسمين» تونس، لابد من الإشارة إلى أن مفهوم الثورة الأكثر صواباً هو الحركة الإصلاحية الشاملة التي ترافق أو تعقب انقلاباً على الحكم، وتقودها رؤية استراتيجية واضحة. فحبذا لو تخرج تونس التي أرادت الحياة، من انقلابها، إلى ثورة تغيير مدنية لا يشوِّشها العسكر ولا تذبحها المغالاة الدينية، لعلها تلعن «من لا يماشي الزمان ويقنع بعيش الحجر»، وتعلم العرب الذين يدعون «احترام حقوق الإنسان»، الاعتراف أولاً بوجود مخلوق يدعى «إنسان».كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
بسمات على أرصفة القمع
18-01-2011