هناك حراك فكري تنويري في تلك المجتمعات التي يطفو على سطحها الزبد الطائفي، لكنك لا تشعر به وسط التلوث والضجيج، لا ترى ألوانه الزاهية وسط سواد العاصفة الترابية، ولا تسمع صوته الهادئ وسط الصراخ، غير أنه موجود ويمضي بخطى وإن كانت بطيئة وغير صاخبة إلا أنها حثيثة وصامدة في وجه الأعاصير، ولكننا لا نرى في الصورة إلا من اصطفوا في الصفوف الأولى فاعتقدنا أنهم الصورة الكاملة، وتوهمنا أن الصراع بين طرفين يتناطحان ويتطاحنان حول فهمهما الخاص المؤدلج، إلا أن الصراع الحقيقي هو بين هؤلاء الطائفيين الذين ينشرون العتمة، وبين التنويريين الليبراليين الذين يصنعون المستقبل... فالطائفيون على اختلاف مذاهبهم يتشربون وينهلون من نفس المعين، وصراعهم مع الليبراليين هو صراع غير متكافئ يتطلب شجاعة فكر وحوار وقلم في مواجهة عتاد الاستبداد الجماعي وأسلحته الفتاكة من تكفير وفتاوى وإقصاء. لذا يخفت صوت العقل ويكتفي بالهمس أحيانا لأن التكلفة باهظة جداً خصوصاً في مجتمعات يغيب فيها التفكير والتعبير الحر.

Ad

نعم هناك حراك فكري جريء يعمل وسط القيود والتضييق، سواء في إيران أو دول الخليج ينشغل به فئات مختلفة من المجتمع من تيارات سياسية وحركات طلابية ومنتديات ونشطاء التويتر والفيس بوك وأكاديميين وكتاب ومفكرين بل وصل ذلك الحراك إلى داخل المؤسسة الدينية، الذي يتجاوز فيه التيار الديني الإصلاحي مناخه وبيئته والخطوط الحمراء للسائد والمألوف، داعيا إلى الإصلاح السياسي السلمي والتجديد الفكري لمفاهيم خارجة عن العصر، مطالباً بالحريات الشخصية وحرية التعبير والاعتقاد، محذراً من ويلات سلطة الكهنوت وعقيدة الوصايا التي رسخت التطرف الدميم والطائفية المقيتة.

نتطرق في هذا المقال إلى مفكرين إسلاميين، على سبيل المثال لا الحصر، كان لفكرهما دور مؤثر في مجتمعهما، وهما د. إبراهيم البليهي المفكر النجدي الدارس في كلية الشريعة بالرياض ود. عبدالكريم سروش المفكر الإيراني ابن ثقافة الثورة، اللذان اجتمع فكرهما على القيم الليبرالية، وتصالحا على الحقوق الإنسانية وتوافقا على تبني سبل التعايش السلمي، رغم الاختلاف الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي.

يقول البليهي: «إن أي مجتمع لا خلاف فيه هو مستقر على بركان، لأنه لا يمكن أن يكون استقرار حقيقي إلا إذا سمح لكل الآراء أن تظهر على السطح فلا تعمل في الخفاء»، لذلك هو يرى أن «في الليبرالية عز المسلمين... فالليبرالية بما تتيحه من تنوع وتكامل وحراك ومرونة ونشاط وتوقد، هي التي ستتيح لأضواء الإسلام أن تكون بكل سطوعها وأقصى درجات إشعاعها، بدليل أن ماليزيا قد تبنت الليبرالية، فاستطاعت بذلك أن تحقق ازدهاراً مشهوداً رائعاً يستحق الاحتذاء، وكذلك تركيا بعد وصول الإسلاميين الليبراليين إلى الحكم، فلقد حَدُّوا من الهيمنة المطلقة للعسكريين، وتمكنوا بليبراليتهم الإسلامية من تحقيق قفزات مهمة في كل المجالات، وإذا أتيح لتركيا أن تستمر في هذا الانفتاح الناضج والنمو السريع الشامل فإنها سوف تصبح من الأقطار المهمة... تميز ماليزيا وتركيا من بين الدول الإسلامية يدل على أن المناخ الليبرالي هو الحل».

أما سروش فيرى أن علاقة المجتمع الليبرالي بالمجتمع الديني ليست «علاقة بين أمرين متضادين»، بل يكمن الفرق بينهما كالفرق «بين السؤال والجواب»، «فالمجتمع الديني لا يسأل لأنه يحسب أنه عثر على الإجابات النهائية لأسئلته»، أما المجتمع الليبرالي «فيتحرى الأسئلة الجديدة دوماً والأجوبة الأكثر تكاملاً»، كما يدعو سروش إلى التمييز بين الدين والمعرفة الدينية، فالأول ثابت والأخرى نسبية متحولة حسب زوايا فهمنا النسبي للدين... فالنص الديني لا يتكلم إنما هو قابل للقراءة المتعددة التي يستنطق بها حسب معارفنا الإنسانية وأدواتها النسبية، لذا فالليبرالية تقف ضد الدين الرسمي الإجباري لا الدين الحر غير الرسمي، وتعارض التفسير البشري الاستبدادي للدين لا الدين ذاته.

من نجد إلى طهران: هل يقود الحراك الفكري المتصالح على ركائز الليبرالية إلى حراك اجتماعي وسياسي، يخرجنا من الدوران عكس عقارب الساعة، بعد أن غرقنا في الخلاف التاريخي العقيم الذي يعيد إنتاج الطائفية؟