أميركا واليورو والدول الناشئة... انقسام ثلاثي الاتجاهات

نشر في 17-12-2010
آخر تحديث 17-12-2010 | 00:01
لقد تجنب الغرب كساداً اقتصادياً، ويعود ذلك جزئياً إلى أن أوروبا والولايات المتحدة تعاونتا معاً وتشاركتا فلسفة اقتصادية متشابهة، والآن يشعر الطرفان بالهوس بمشاكلهما الداخلية وقد اعتمدا استراتيجيات متعارضة لمعالجتها، وهو أمر لا يبشر بالخير على مستوى التعاون الدولي.
 إيكونوميست على عكس التوقعات كانت هذه السنة جيدة على مستوى الاقتصاد العالمي، فقد ارتفع الإنتاج العالمي على الأرجح بنسبة تقارب الخمسة في المئة، أي بما يفوق المعدل المعهود بهامش مهم وبوتيرة أسرع بكثير مما كان يتوقعه المراقبون منذ 12 شهراً، ولم تتحقق على أرض الواقع أيٌّ من المخاطر التي أرعبت الأسواق المالية هذه السنة. لم يواجه الاقتصاد الصيني أي جمود، ولم يتحول التباطؤ الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة في منتصف السنة إلى ركود مضاعف، لكن ثبتت صحة المشاكل في اقتصادات الهامش في منطقة اليورو. في المقابل، نمت منطقة اليورو ككل بمعدل مقبول بالنسبة إلى قارة عجوز، بفضل الحيوية التي وفرتها ألمانيا التي تُعتبر الاقتصاد الأغنى والأسرع نمواً في عام 2010.

لكن يتعلق السؤال المطروح راهناً بما إذا كان عام 2011 سيتبع النمط نفسه، هذا ما سيحصل بحسب رأي الكثيرين. عادت ثقة المستهلكين ورجال الأعمال لتتعزز في معظم أنحاء العالم بينما تتسارع وتيرة الصناعة العالمية وتشهد الأسواق المالية ازدهاراً ملحوظاً. كذلك، ارتفع مؤشر "مورغان ستانلي" لأسعار الحصص العالمية بنسبة 20% منذ أوائل شهر يوليو، إذ يتجاهل المستثمرون اليوم الأنباء المتعلقة بوجود مخاطر أكبر من تلك التي أصابتهم في بداية هذه السنة، بدءاً من ارتفاع مجموع الديون في دول الهامش في منطقة اليورو ووصولاً إلى الأنباء المرتبطة بزيادة التضخم في الصين.

في وقتٍ سابق من هذه السنة، كان المستثمرون على درجة عالية من التشاؤم. أما اليوم، فتبدو ثقتهم الكبيرة بالوضع في غير محلها، لتبسيط الأمور قليلاً، يكفي أن نقول إن أداء الاقتصاد العالمي في عام 2011 يرتكز على ما سيحصل في ثلاث مناطق: الأسواق الناشئة الكبرى ومنطقة اليورو والولايات المتحدة. (صحيح أن اليابان لاتزال تُعتبر اقتصاداً له ثقله في العالم، لكن من غير المتوقع أن تحصل أي مفاجآت فيها). تسير هذه المناطق الثلاث في اتجاهات مختلفة، مع تسجيل توقعات نمو مغايرة جداً ومع اختيار سياسات عمل متناقضة. بعض معالم هذا الاختلاف لا يمكن تفاديها: فحتى بالنسبة إلى أي مراقب عادي، لطالما كان الاقتصاد الهندي مختلفاً عن الاقتصاد الأميركي، لكن بدأت انقسامات جديدة بالظهور، وتحديداً في العالم الغني، ما يعزز فرص التصادم بين الأطراف المختلفة.

منطقة على حافة الهاوية

لنبدأ من الأسواق الناشئة الكبرى التي تُعتبر حتى الآن من أكبر المساهمين في النمو العالمي لهذه السنة، بدءاً من مدينة شينتزين ووصولاً إلى ساو باولو، تشهد هذه الأنظمة الاقتصادية أوضاعاً مضطربة، فقد استُنزفت منها قدراتها الاحتياطية، وبدأ الرأسمال الأجنبي يتدفق إلى الأماكن التي تسمح بذلك، وقد حلّ الخوف من زيادة التضخم مكان المخاوف الجانبية من تضخم الأصول. تشكل الصين خير مثال على ذلك، ولكنها ليست الوحيدة التي تواجه وضعاً مماثلاً، فمع زحمة المتسوقين في المتاجر البرازيلية، ارتفع معدل التضخم هناك بنسبة تفوق الخمسة في المئة، وسجلت الواردات في شهر نوفمبر نسبة أعلى بـ44% مقارنةً بالسنة السابقة.

غالباً ما تتعلق المشكلة بظاهرة "الأموال الرخيصة"، مع أن الانهيار الذي شهده الوضع الاقتصادي في عام 2009 أصبح من الماضي، لاتزال الظروف النقدية هشة على نحوٍ عجيب، ويعود ذلك في أماكن عدة إلى الجهود المبذولة للحفاظ على استقرار قيمة العملات (تبرز الصين مجدداً في هذا المجال). لكن لا يمكن أن تصمد هذه المقاربة. من أجل إيقاف تسارع ارتفاع الأسعار، ستحتاج معظم الأنظمة الاقتصادية الناشئة إلى الحد من سياساتها المتبعة في السنة المقبلة. إذا بالغت في تطبيق السياسات الاقتصادية، فقد يتباطأ النمو فيها بشكل حاد. أما في حال لم تطبّق ما يكفي من التدابير، فهي ستعزز بذلك احتمال زيادة التضخم وتضييق الخناق على الاقتصاد في مرحلة لاحقة. في الحالتين، يرتفع احتمال حصول صدمات على مستوى الاقتصاد الكلي انطلاقاً من الدول الناشئة.

تشكل منطقة اليورو مصدر قلق واضح آخر، لكن هذه المرة على المستويين المالي والاقتصادي الكلي. على المدى القصير، سيتباطأ النمو بلا شك، أقلّه بسبب تخفيض نفقات الحكومة. في الأنظمة الاقتصادية المركزية، وتحديداً ألمانيا، يبقى التوطيد المالي طوعياً، لا بل متعمداً، أما الأنظمة الاقتصادية الهامشية الهشة، مثل أيرلندا والبرتغال واليونان، فهي لا تملك خيارات كثيرة ويبدو مستقبلها قاتماً. تشير بعض الأدلة المهمة إلى أن البلدان المنتمية إلى كيانات وحدة نقدية لن تتمكن على الأرجح من تحسين قدرتها التنافسية بسرعة من خلال تخفيض الرواتب والأسعار. الأسوأ من ذلك بعد هو أن العواقب المالية لأي تحول نحو عالمٍ يكون فيه أي بلد من دول منطقة اليورو عرضة للانهيار أصبحت أوضح من أي وقتٍ مضى. لا يقتصر الأمر على واقع أن عدداً كبيراً من حكومات منطقة اليورو مدينة بمبالغ طائلة، بل إن النموذج المصرفي الأوروبي ككل، والذي يرتكز على التكامل التام عبر الحدود، قد يحتاج إلى إعادة تقييم. ستؤدي هذه المصاعب إلى ممارسة ضغط شديد على أبرع صانعي السياسة. لسوء الحظ، يشكل القادة السياسيون في منطقة اليورو مجموعة من الأشخاص المتذمرين والكئيبين. لا مفر على ما يبدو من انتشار فوضى عارمة في عام 2011.

على أوباما إدراك كيفية التصرف مع الوضع المستجدّ

سيشهد الاقتصاد الأميركي أيضاً تحوّلاً ملحوظاً، لكن في اتجاه مختلف، فعلى خلاف أوروبا، ابتعدت السياسة الاقتصادية الكلية في الولايات المتحدة عن مبدأ التقشف بشكلٍ كامل. لقد كان اتفاق تخفيض الضرائب الذي عُقد في 7 ديسمبر بين باراك أوباما والجمهوريين في الكونغرس أكبر مما كان متوقعاً، فهو لم يكتفِ بتوسيع نطاق التخفيضات الضريبية التي فُرضت منذ عهد جورج بوش طوال سنتين، بل إنه أضاف أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي إلى التخفيضات الجديدة لعام 2011. حين يجتمع هذا الوضع مع استمرار شراء سندات الاحتياطي الفدرالي، ستُقدم الولايات المتحدة على ضخ جرعة جديدة من الحوافز المقوية لمصلحتها الخاصة في الوقت الذي تخضع فيه أوروبا لإعادة التأهيل وتتخلص من إدمانها الشرائي السابق.

قد تؤدي هذه المعطيات إلى نمو الناتج الأميركي بنسبة 4% في السنة المقبلة. إنها نزعة مغايرة عما هو مألوف وهي كافية لتخفيض نسبة البطالة، ولو بوتيرة بطيئة. لكن يأخذ السياسيون الأميركيون مجازفة كبرى أيضاً. صحيح أن وضع الموازنة في بلادهم يبدو قاتماً على المدى الطويل، لكن لم يحاول أوباما والجمهوريون التوصل إلى اتفاق على مستوى التوطيد المالي على المدى المتوسط هذا الأسبوع. من المتوقع أن تذهب اقتراحات متنوعة لإصلاح العجز أدراج الرياح. لقد رحّب أصحاب السندات، الذين كانوا متسامحين جداً تجاه خطوة طباعة العملات الاحتياطية الرئيسة في العالم، بالاتفاق الضريبي من خلال بيع سندات الخزينة. لا شك أن بعض المستثمرين يتوقعون نمواً سريعاً في المستقبل القريب، لكن يشعر عدد متزايد منهم بالقلق من حجم العجز المالي الأميركي. في حال تحققت تلك المخاوف على أرض الواقع، فقد ينهار سوق السندات في الولايات المتحدة في عام 2011.

ما مدى أهمية اختلاف الاتجاهات التي تتخذها أبرز الأطراف؟ سيؤدي هذا الاختلاف بين أهم ثلاثة أطراف في العالم إلى تعقيد المخاطر المطروحة على كل واحد منها. كذلك، ستؤدي السياسة النقدية المرنة والمخاوف السائدة في الولايات المتحدة بشأن العجز الكبير في دفع الديون في منطقة اليورو إلى التشجيع على تدفق الرساميل نحو الأنظمة الاقتصادية الناشئة، ما يدفع البنوك المركزية فيها إلى التردد في رفع معدلات الفائدة وتخفيض معدل التضخم. خلال السنوات الخمس المقبلة، من المتوقع أن تسجل الأنظمة الاقتصادية الناشئة أكثر من 50% من النمو العالمي، لكن هذه الزيادة لن تتخطى نسبة 13% من الدين العام العالمي. بدل إعادة التوازن إلى الوضع العام، سيقع الاقتصاد العالمي قريباً في موقف حرج ما بين غربٍ غارق في الديون وشرقٍ على طريق الازدهار.

لقد تجنب الغرب كساداً اقتصادياً، ويعود ذلك جزئياً إلى أن أوروبا والولايات المتحدة تعاونتا معاً وتشاركتا فلسفة اقتصادية متشابهة، والآن يشعر الطرفان بالهوس بمشاكلهما الداخلية وقد اعتمدا استراتيجيات متعارضة لمعالجتها، وهو أمر لا يبشر بالخير على مستوى التعاون الدولي. سيتردد صانعو السياسة في بروكسل في إطلاق جولة تجارية جديدة حين يكون أحد أعضاء منطقة اليورو على وشك الانهيار. إنه مؤشر سيئ أيضاً بالنسبة إلى الأسواق المالية، نظراً إلى عدم فاعلية المقاربة الأوروبية المبنية على مداواة الجرح الآني في منطقة اليورو من جهة، وعدم فاعلية المقاربة الأميركية المبنية على مبدأ "نحن نعاني أزمة اليوم، والله أعلم بما سيحصل غداً" لمعالجة العجز من جهة أخرى.

لكن يمكن تجنب هذا الوضع طبعاً. بعد قرار صرف الأموال اللازمة، يستطيع أوباما والكونغرس المضي قدماً لتطبيق خطة على المدى المتوسط بهدف تخفيض العجز. قد يُقدم القادة الأوروبيون المتنازعون على التفاوض بشأن اتفاق يهدف إلى تعزيز استقرار العملات الفردية والنظام المصرفي في منطقة اليورو. أما أبرز الأنظمة الاقتصادية الناشئة، فهي قد تسمح بارتفاع قيمة عملاتها، لكن لا يمكن المراهنة على حصول ذلك. فقد يؤدي تزايد الانقسام في الاقتصاد العالمي إلى تحويل عام 2011 إلى عام الصدمات المدمِّرة.

back to top