إسرائيل متفوقة سلاحاً... لكن لماذا التخاذل في اللغة ؟!

نشر في 12-08-2010
آخر تحديث 12-08-2010 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري الحد الفاصل بين العرب ومن جاورهم من أمم كالأتراك والإيرانيين والأكراد والأحباش هو فاصل اللغة، لقد بقي كل هؤلاء «خارج» الوطن العربي لأنهم خارج العربية لغةً، وبالتالي ثقافةً ووجداناً، وبقاء اللغة ضمانة بقاء الأمة، فاللغة إن كانت بدايةً لساناً، فهي ثقافة ينشأ على أساسها وجدان، وتتبلور من منطلقها ثقافة وشخصية قومية.

ما يحيّرني حقاً هو: ما تفسير التخاذل العربي في معركة اللغة؟ أفهم أن تتخاذل الدول العربية في مواجهة إسرائيل لأنها متفوقة عليها سلاحاً، أي أن ميزان القوة ليس لمصلحتها. وسيبقى وضعها هكذا إلى أن يتغيّر ميزان القوة لمصلحة تلك الدول.

لكن ما لا أستطيع فهمه هو تخاذل العرب في مسألة اللغة. فما الذي يجبرهم حقاً على مثل هذا التخاذل؟ إن اللغة أساس وجود الأمة ومصدر تميزها. فعلى أساس اللغة تقوم الثقافة وينشأ الوجدان. وما يوحد الوطن العربي كونه ناطقاً بلغة عربية واحدة: فالعروبة لم تعد أصلاً وفصلاً. والعربي هو من تميز بالعربية لغةً وثقافةً ووجداناً. والحد الفاصل بين العرب ومن جاورهم من أمم كالأتراك والإيرانيين والأكراد والأحباش هو فاصل اللغة. لقد بقي كل هؤلاء «خارج» الوطن العربي لأنهم خارج العربية لغةً، وبالتالي ثقافةً ووجداناً. ومما ينسب للنبي الكريم قوله الفصل: «ليست العربية بأمٍ وأب لأحدكم، إنما العربية اللسان». نعم، يا رسول الله، العربية اللسان.

ولست متحمساً للعربية بالذات لدافع قومي ولا أدعو إلى محاربة اللغات الأخرى في الوطن العربي بل أدعو إلى التعايش معها. لكني قوي الاقتناع بأن العلم والتقدم والنهضة لا تدخل في حياة أمة إلا من خلال لغتها الأم وعبر لسانها وأن جميع الأمم الناهضة والمتقدمة استوعبت هذه المتطلبات، من علم وتقدم ونهضة، من خلال لسانها الجمْعي ولو كانت اللغة السنسكريتية أو الأمهرية أو غيرهما لغة جمعية للعرب لناديت باستخدامها. فالمسألة مسألة كون «العربية» لساناً جمْعياً ولغة أم للمجتمعات العربية، لا أكثر ولا أقل.

إن ما يحدث في هذه المجتمعات ليس فقط تدريس العلوم الحديثة والطب بلغات غير العربية. ما يحدث أفظع من ذلك: فنحن نشهد بأم أعيننا تغرّب الأطفال العرب عن لغتهم الأم بتأثير مربياتهم الأجنبيات وبحكم ما يشهدونه ويقرأونه من مؤثرات منتشرة بينهم، كذلك ضعف خريجينا الجامعيين في أدائهم اللغوي العربي بحيث لا يستطيعون كتابة رسالة قصيرة، بلا أخطاء، بلغتهم العربية!

إن شعوباً لا يزيد عدد أفرادها على ملايين عدة أصرت على استخدام لغاتها الجمعية في تدريس الطب والعلوم الحديثة بجامعاتها أي بلغتها القومية... وقد استطاعت الإرادة الإسرائيلية إحياء لغة ميتة هي العبرية، وجعلها لغة جمعية حيّة يتحدث بها الرسميون الإسرائيليون وعموم الإسرائيليين، في حياتهم العامة والخاصة، مكذبين بذلك «نبوءة» سلامة موسى الذي كان يقول باستحالة إحياء لغة «ميتة» كالعبرية ملمحّاً بذلك إلى استحالة تجديد لغة حيّة هي العربية الفصحى التي كان يكتب بها كتبه المؤثرة، ويخاطب قومه من خلالها!

والحجة المكررة بشأن إطاحة اللغات العالمية الحية لمصلحة العربية مردودة. فليس مطلوباً استبعاد اللغة العالمية الحيّة السائدة في وسط أكاديمي ما وإحلال العربية محلها. فبالنسبة للطالب المجد، وطلبة العلوم والطب طلبة مجدون دراسياً ومتميزون بإمكانهم تعلم اللغتين- معاً- العربية والأجنبية مثلما يدرسون المواد العلمية والطبية الصعبة. ومن تجربتي الجامعية التي مررت بها في الجامعة الأميركية ببيروت، واستفدت منها كثيراً، كون المواد الدراسية باللغتين العربية والانكليزية، وكان الطلبة على إلمام بهما معاً، وما زادنا تمكناً، زملائي وأنا، كوننا مختصين بالدراسات العربية في جامعة أميركية. فكنا نقرأ مراجع التخصص باللغتين اللتين تمكنا منهما معاً، فلم تضع علينا أي لغة، ومكنتنا كل لغة منهما على فتح نافذة مختلفة على العالم الذي تمثله، فكانت العربية نافذتنا على التراث العربي وعلى الواقع العربي، وكانت الإنكليزية نافذتنا على العالم الأنجلو- ساكسوني وفكره، وما انفتح عليه من فكر عالمي وإنساني.

وما دامت اللغة باقية، فالأمة الناطقة بها باقية. وطوال العهد العثماني، لقرون، كانت التركية هي لغة المحافل الرسمية ولغة «الطبقة العليا»، وحتى المقربون العرب من السلطة العثمانية كانوا يتظاهرون التحدث بها تقرباً من سادتهم، وكانت «العربية» متروكة «لأولاد العرب» يلهجون بها بلهجاتهم العامية في أرياف مصر وقرى العراق وقصبات المغرب وبوادي نجد... لكن سرعان ما انبعثت العربية «لغة القرآن»، ومعها العروبة، وكانت الكنائس في بلاد الشام أول من جعلها لغة صلاة، وبذل علماء اللغة من مسيحيي المشرق العربي جهداً لا ينكر في سبيل إحياء اللغة العربية. وكان موارنة لبنان في مقدمة أشقائهم العرب احتفاءً بالعربية، وانفتاحاً، من خلالها، على الفكر الإنساني الذي عانقته العربية والعروبة في أرجاء الوطن العربي الكبير كافة، ونشأت من مفاهيمه فكرة القومية العربية.

هكذا فإن بقاء اللغة ضمانة بقاء الأمة. فاللغة إن كانت بدايةً لساناً، فهي ثقافة ينشأ على أساسها وجدان، وتتبلور من منطلقها ثقافة وشخصية قومية.

ولكن- علينا أن نعترف!- في لغتنا العربية الكلاسيكية صعوبات جمة علينا القبول بتسهيلها وتبسيطها. وأن يُبذل جهد علمي رصين في سبيل ذلك. وأنا أشاطر من يذهب إلى القول: «إننا أمة يصعب عليها التطور، وتعيش في الروح العاطفية لا العملية. وتنظر للغة لا كأداة تعبير ووسيلة عملية، وإنما كزخرفة وأداة استمتاع وتخلط بين قدسية كلام الله وطوعية كلام الناس. هذا موضوع خطير جداً، لأنه من أسباب تأخرنا؛ ففي أهم مرحلة في تعلم الإنسان ونضوجه نضيّع وقت طلابنا في دروس النحو والإملاء عدة ساعات أسبوعياً لعدة سنين، ثم يتخرج الطالب فيجد نفسه عاجزاً عن استعمال كل ما تعلمه... حتى الكمبيوتر أصبح يضيق بنا ويقرف منا فكثيراً ما يجد نفسه عاجزاً عن التعامل مع تعقيداتنا اللغوية والحروفية»- (خالد القشطيني، «حبنا اللغوي»، «الشرق الأوسط»: 22/6/2010).

والحفاظ على اللغة العربية، وإحياؤها اليوم، جزء من معركة المصير. وإذا كانت القوى العربية مجتمعة لا تستطيع منازلة إسرائيل عسكرياً لأن إسرائيل متفوقة في السلاح، فبإمكان تلك القوى عمل شيء من أجل لغتها العربية. ولقد تابعت في السنوات الأخيرة مثل هذه الجهود. ووجدت في ما بادر إليه الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد السعودي، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، نحو لغته العربية ضمن إطار «اليونسكو» بباريس، والمعهد الدبلوماسي بموسكو ودعمه لإصدار الموسوعة العربية العالمية ما ينبغي أن يُذكر ويُشكر، كما وجدت أن مؤسسة الفكر العربي، التي أنشأها ويرعاها الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز قد قامت بفعالية متميزة ونادرة في مقرها ببيروت، أحد مراكز الإشعاع الثقافي العربي إلى جانب القاهرة، عندما نسقت مع جهات لبنانية، رسـمية وأهلية، هذا العام من أبرزها جمعية «فعل أمر» ووزارة الثقافة اللبنانية، تظاهرةً لدعم اللغة العربية. ثم ان دعوة رئيس مؤسسة الفكر العربي إلى قمة ثقافية عربية تصب في هذا الاتجاه، على أعلى المستويات، وأرى أن تقر القمة الثقافية العربية المنتظرة، إذا انعقدت، خطة عملية لدعم اللغة العربية وإحيائها على الصعيد العربي كله، فذلك من صلب العمل الثقافي العربي. وسيجد القادة العرب أيضاً فيما قامت به المجامع اللغوية الرائدة في كل من القاهرة ودمشق وعمّان وبلاد المغرب العربي حصيلة قيّمة يمكن الانطلاق على أساسها نحو الهدف المنشود.

* مفكر من البحرين 

back to top