لا أتصور أن هناك إمكانية للاستفادة من دروس الثورة التونسية التي أسقطت دكتاتورها، كما أنه من الصعب تكرار الحدث بذات السياق في بلد آخر، فلكل بلد خصوصيته وعناصر مكوناته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

Ad

ويبدو أن حالة الكبت والاستلاب والتسلط في المجتمعات العربية، التي ترزح تحت قيادات متسلطة، قد تشابكت مع حالة فرح عفوي بسقوط دكتاتور تونس فدفعت بأمنيات مكبوتة إلى القول بتكرار المشهد.

تسلسل الأحداث في تونس منذ أن أشعل المناضل البوعزيزي النار في نفسه فاشتعلت بعدها ثورة شعبية جماهيرية غير مسبوقة، وقف الجيش فيها على الحياد، ومن ثم فرار الدكتاتور على عجل، يصلح لرواية خيالية، خاصة لمن يعرف النظام التونسي جيداً.

عندما حدث انقلاب زين العابدين بن علي في نوفمبر 1987 تصادف أنني كنت موجوداً في تونس حينذاك لحضور مؤتمر علمي. بالطبع تفاءل الكثيرون من الأصدقاء التوانسة فقد كان نظام بورقيبة قد شاخ، بل وأصيب بالخرير. بدايات ووعود بن علي كانت داعمة للمحة التفاؤل تلك، ولكنها سرعان ما تبخرت وتحولت إلى وبال وانتكاسات.

ومنذ ذلك الوقت تسنى لي العمل مع العديد من الأصدقاء في تونس وبالذات في المجتمع المدني داخل وخارج تونس كالمنصف المرزوقي وعبدالباسط بن حسن وأحمد كرعود وصديقنا الراحل أحمد عثماني رحمه الله وغيرهم.

اتضح لي من خلال تجربة قاربت الـ25 عاماً في فهم المجتمع التونسي أن هناك سؤالاً مطروحاً على الدوام، وهو كيف يستطيع رجل مخابرات لا يملك أي درجة من الخيال والإبداع أن يحكم شعباً به طبقة متوسطة متسعة ودرجة تعليم عال، بل ويسومه سوء العذاب؟

رجل عادي جداً، كل ملكاته هي حسه الأمني وقدرته على المناورة في الخارج والداخل، وتحويل البلاد إلى دولة بوليسية شديدة القمعية، وفي ذات الوقت يتمكن من حشد الدعم الغربي المنافق بحجة مكافحة الإرهاب؟

وقد اتضح أيضاً أن الهيمنة في تونس كانت لجهاز الأمن الداخلي لتتحول البلاد إلى دولة بوليسية، ومن ثم تم تحييد الجيش الذي لم يكن قد أخذ وضعه الطبيعي، بل وبالإمكان اعتبار قياداته من ضمن مكونات الطبقة الوسطى التي تشعر باغتراب حاد وعدم قدرتها على المشاركة السياسية.

الملاحظ أيضاً أن حجم الفساد والاستفزاز من قبل الحلقة الأصغر لعائلة الرئيس وزوجته قد زاد عن الحد، وأصبحت البلاد ومقدراتها تباع جهاراً نهاراً. وشيئاً فشيئاً عزل الدكتاتور نفسه بالكامل ولم يعد له حلفاء في المجتمع حتى من ذلك النوع المستفيد من النظام، فكان السقوط سريعاً، وتبدد الدكتاتور كما كتلة شمع تحت شمس حارقة.

بالطبع سيكون الأمر متأخراً على محسن بوطريف الذي أحرق نفسه حتى الموت في الجزائر، ليكتشف أن الظروف التونسية ليست هي في الجزائر ولكن الحماسة لم تمنع عدداً من الشباب من حرق أنفسهم، كما أن عبده عبدالمنعم خليفة الذي أشعل النار بنفسه أمام مجلس الشعب المصري احتجاجاً سيكتشف أنه سيتم التعامل مع مشكلته على أنها شأن شخصي بحت.

هل هي حكاية قابلة للتكرار؟ لا أظن.

من الجائز طبعاً أن يتم اختطاف هذه الثورة الشعبية من قبل سياسيين، ولكن بن علي آخر لن يتكرر.

رسالة تونس؟ إن كان ثمة رسالة فهي لن تكون أكثر من درس عام في أن الدكتاتورية لا تدوم، وإن دامت قسراً فمصيرها لن يكون هادئاً نسبياً، كما جرى في «ثورة الياسمين» التونسية، ولكنها قد تكون دموية وخراباً على الجميع.