لايزال اليونانيون، رغم مرور أكثر من ألفي عام على موت أفلاطون وأرسطو، يعيدون قراءة نتاجهما الفلسفي ويفخرون بما قدماه للبشرية من مساهمات فكرية وفلسفية، ففي الدورة السادسة لمعرض الكتاب الذي أقيم في مدينة تسالونيكي اليونانية العام الماضي كان هذان الفيلسوفان نجمي ذلك المعرض، حيث لاقت كتبيهما باللغة الإغريقية الحديثة نجاحاً باهراً، وقد جاء الإقبال كثيفاً على كتابي "الجمهورية" و"الدفاع عن سقراط" اللذين أعيدت ترجمتهما بلغة أدبية سهلة وبسيطة تصدى لها عدد من الأدباء اليونانيين المعاصرين، وهو الأمر الذي رغّب كثيراً من القراء باقتنائهما.

Ad

ولايزال الإنكليز، رغم مرور مئات السنين على وفاة شكسبير وتشارلز ديكنز وبيرون وبقية الأدباء البريطانيين الكبار، يعيدون طبع كتبهم، ويبحثون في سيرتهم، ويعيدون تفسير الأحداث المهمة في حياتهم، ويبرعون في تحليل شخصياتهم، وهم في ذلك يجدون متعة ورغبة في المعرفة لا حد لها، وقد قاموا على مر السنين بجمع كل ما دوّنه الأدباء والفلاسفة الإنكليز العظام ليحفظوه من الضياع، ومازالوا في عملهم مستمرين!

وفي فرنسا يفعلون مثلما يفعل الإنكليز مع فولتير وجان جاك روسو وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وغوستاف فلوبير وغيرهم من الأدباء والفلاسفة والمفكرين والشعراء، فهم ثروة الشعب الحقيقة وزاده المعرفي ومصدر فخره بين الأمم!

وليس الأمر مقتصراً على من ذكرت، بل هذه هي حال كل الشعوب المتحضرة التي دوّنت كل ما خطه أدباؤها وفلاسفتها وحفظته لأنها أدركت قيمته جيداً، واعتبرته معادلاً لما في البنوك المركزية من عملات وسبائك ذهبية، بل يفوقها في بعض الأحيان!

هذه هي حالهم فماذا عنّا نحن؟ وكيف تعاملنا مع نتاج كبار أدبائنا ومفكرينا وشعرائنا السابقين؟ هل حرصنا على جمع ما خطته أقلامهم لنستفيد وتستفيد منه الأجيال القادمة؟ هل راودنا الخوف من ضياع تلك الأفكار الرائعة والحلول الناجعة التي قدموها خلال مسيرة حياتهم لمشاكلنا السياسية والاجتماعية والثقافية؟ هل ننظر لكتاباتهم وأفكارهم على أنها ثروة قومية يجب الحفاظ عليها أم أننا نراها "هذرة زائدة" و"كلام فاضي"؟!

حين توفي عميد الكتّاب الكويتيين "محمد مساعد الصالح" قبل أسابيع بحثت عن كتبه فلم أجد سوى كتابين "جمعيات الدشاديش القصيرة"... وكتاب "قال بو طلال حفظه الله" وقد جمع في هذين الكتابين عدداً من مقالاته لا يشكل ربما 10% مما خطه قلمه خلال مسيرته الصحافية التي امتدت لما يقرب من خمسين عاماً، والأمر ذاته حدث من قبل للراحل الدكتور أحمد الربعي الذي لم يقم أحد حتى الآن- حسب علمي- بجمع مقالاته الرائعة وأشعاره الجميلة، ولا يبدو أن أحداً مهتم بذلك، ومصير كتابات الراحل أحمد البغدادي على ما يبدو ليس ببعيد عن مصير كتابات زميليه، رغم أنه كان أحرص منهما في نشر بعض كتبه ذات الرؤى الجديدة والجريئة التي لاقى منها ما لاقى في حياته... وبعد مماته!

وأخشى أن يمتد الأمر ذاته لكتابات الأستاذ عبداللطيف الدعيج- أطال الله في عمره- التي تعتبر بحق خير مرجع لمن أراد معرفة الأحداث السياسية في الكويت بتفاصيلها الدقيقة خلال الأربعين عاماً الماضية، فقد حرص خلال هذه السنوات الطوال على التعليق بشكل شبه يومي على كل حدث سياسي وثقافي واجتماعي في الكويت، فلم يترك مسألة صغيرة ولا كبيرة إلا كان له رأي فيها، وهو زاد رائع لو جمع ووضع في مجلدات لاستفاد منه السياسيون والباحثون في تاريخ الكويت الحديث.

نعم... أدرك أن هؤلاء الكتّاب يتحملون الجزء الأكبر في عدم جمع ونشر ما كتبوه خلال حياتهم، وهو خطأ يرتكبه أغلب الكتّاب والمفكرين الكويتيين، حيث لا يحرصون على ذلك خوفاً من التكلفة المادية رغم يسار الكثير منهم، وهو خطأ كبير لا يغتفر، فالمهم بقاء هذه الأفكار وحفظها من الضياع كي تستفيد منها الأجيال القادمة، وتبقى الدولة مسؤولة عن حفظ هذا النتاج الفكري والأدبي بأي شكل، لأن له قيمته التي لا تقدر بثمن، وأهمية قصوى لكل من يبدأ خطواته الأولى في عالم الأدب والثقافة والفكر.

لذلك... أتمنى من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب تشكيل لجنة مهمتها البحث والتنقيب عن كل ما خطّه هؤلاء وغيرهم من الكتّاب الراحلين ونشره في مجلدات خاصة لحفظها من الضياع، والأمر ينطبق بالتأكيد على كبار الروائيين والقصصيين والشعراء الذين لا يقلون أهمية عن سابقيهم، فهل سيفعل ذلك؟!