للوقائع والأحداث الحياتية وجهان: واحد حقيقي وواحد مزيف ومخاتل. ولأن للإنسان عينين تقعان في مقدمة وجهه، وليس على جانبي رأسه، فإنه -للأسف- لا يرى إلا وجها واحدا من الوقائع والحوادث.

Ad

وفي عالم السياسة المراوغ تنطبق هذه الحالة (العوراء) بجدارة!

ما بين عامي 1982م – 1987م كنتُ أعيش في بريطانيا طالبة للدراسات العليا في جامعة لندن. وكان لكلية الدراسات الشرقية والإفريقية التي التحقتُ بها، واختصارها (soas)، مقهى شهير غالباً ما يعجّ بأخلاط من الطلبة الأفارقة والآسيويين والعرب من عراقيين ومغاربيين وخليجيين ويمنيين... إلخ. وكان يمكنك بسهولة الاستدلال على وجهي العملة في ما يتعلق بالأوضاع السياسية للبلدان التي ينتمي إليها هؤلاء الطلبة، وخاصة البلدان ذات الأنظمة الدكتاتورية والقمعية.

يمكنك مثلاً ملاحظة أن الطلبة العراقيين والليبيين على وجه الخصوص ينقسمون إلى فئتين: الفئة الأولى تتمثل في أولئك الذين ذاقوا طعم العسف والملاحقة والتضييق من قبل أنظمتهم السياسية، سواء أكانت معاناة شخصية أو معاناة لأهل وأقارب، فوجدوا في بريطانيا الملاذ والملجأ وفسحة العيش والحرية. أما الفئة الثانية فهي مجموعة من الموالين للنظام والمبتعثين من قبله، ومهمتهم إلى جانب الدراسة التجسس والمراقبة وربما إعداد التقارير عن مواطنيهم وعما يتفوهون به من نثار الأحاديث حول مشاهد الظلم ومفاسد الدكتاتورية. وكان المشهد خصباً وبانورامياً بحق!

وقد شاءت الظروف أن أرى هذا المشهد البانورامي من زاوية أقرب وأكثر حرارة، وذلك من خلال صديقتين لي حينئذ، واحدة عراقية شاركتني السكن واللقمة وهي (هناء. ت)، والثانية ليبية كانت في الكثير من الأحايين أقرب لي من ظلي وهي (سالمة. ج). أما هناء فقد غادرت العراق بلا نية للرجوع كما يغادر الناجون بأعجوبة سفينة آخذة بالغرق، ولم تحمل معها من عدة الرحيل حين استعاضت بالمنفى عن السجن الكبير سوى القلق والمرارات القديمة والمخاوف الغامضة، وسوى التوجس الحَذِر من كل ما هو «بعثي» أو له صلة بالسفارة العراقية. عاشت هناء في بريطانيا وهي تتشبث بالإقامة الهشة التي تحصل عليها نتيجة عملها في السفارات العربية كموظفة ما تكاد تستقر في إحداها حتى تنتقل إلى غيرها، حسب مقتضيات الحاجة وفرص العرض والطلب. وقد استطعتُ حينها أن أعرف من (هناء) الوجه الحقيقي للعراق في ظل صدام حسين ومدى انكسار الإنسان العراقي تحت آلة الظلم والقهر، في الوقت الذي كانت فيه وسائل إعلامنا المحلي تمجد الطاغية حامي حمى البوابة الشرقية وقاهر الفرس المجوس، وتمده حكوماتنا بالمال والعتاد لمواصلة فتوحاته الظافرة!

أما (سالمة) الليبية فتنتمي إلى (البربر) الذين يعتدّون بكونهم السكان الأصليين في ليبيا وشمال إفريقيا، أما العرب فلم يستوطنوا المنطقة إلا بعد الفتوحات الإسلامية. ورغم صدق هذه المقولة وتقبل البربر لوضعهم فإن محاولات طمس هويتهم ولغتهم ظلت تُمارس بلا هوادة، وظلوا هدفاً هيناً للمطاردة والتضييق والإرهاب، وخاصة في ما يتعلق بإحياء أو دراسة اللغة (الأمازيغية) وهي لغة البربر الأصلية. ويبدو أن (سالمة) كانت تعيش في هذه الزاوية الحرجة التي طالما أشعرتها بذلك الخوف المرضي من الملاحقة والضيم، خاصة بعد فرار أسرتها من ليبيا إلى بريطانيا في ظروف صعبة وغامضة. لذلك ظلت (سالمة) تعيش حالة من الرهاب المرضي الذي يدفعها إلى الحذر الشديد في ما يتعلق بالإعلان عن هويتها أو مكان إقامتها أو أرقام هواتفها، وظللنا نعاني معها متاعب هذا الغموض والتخفي، ونشفق على هكذا حياة في ظل هكذا نظام ودكتاتورية.

دارت السنوات واستبدلت (هناء) –حين زواجها من بريطاني- بإقامتها الهشة إقامة دائمة أنهت قلقها المزمن وفزعها من فكرة العودة إلى مقصلة العراق. وفعلت (سالمة) ذات الشيء لكنها ظلت تعيش بارانويا التخفي والحذر وتتوجس من كل ظل أو هيئة.

تلك بعض من ذكريات قديمة أيقظها ما يدور في أيامنا هذه من سقوط دكتاتوريات وتهاوي عروش الاستبداد على رؤوس طغاتها وأزلامها، العراق كان أولاً، ثم تونس ومصر، واليمن على الطريق، وها هي ليبيا تتوضأ بالدم وتتهيأ لطقس الخلاص.

كم من اعتذار ندين به لأمثال (هناء) و(سالمة) لأننا لم نرَ الوجه الآخر القبيح لدكتاتوريات العصر؟!