المسلسلات: كلاكيت آخر مرة
جاء رمضان وذهب رمضان، وجاءت المسلسلات وذهبت بعد أن ظلت الشغل الشاغل لمعظم كتّاب الزوايا والأعمدة الصحفية، يخوضون في نقدها طولاً وعرضاً، مشمرين عن سواعدهم، مكشرين عن أنيابهم، مرددين المواعظ إياها عن حساسيتهم المفرطة إزاء كل كلمة ومشهد وحركة وإيماءة! كان الله في عون الممثلين والمخرجين والمنتجين، الذين لو استجابوا لكل هذا الفائض من النقد لوجب عليهم أن يقدموا آلاف المسودات والنسخ عن كل مسلسل، حتى يستطيعوا إرضاء هذا الكم من المتربصين بأعمالهم الفنية واحداً واحداً!
لعل من الأمور المثيرة للعجب أنه كلما ازداد التعامل مع أجناس الفن المرئي في التلفزيون والسينما ازدادت مساحات الجهل بأسس النقد الفني لهذه الأعمال. والأعجب من ذلك أن كل كاتب صحافي مهما كان اختصاصه وتوجهاته الكتابية يأبى إلا أن يكون له باع في النقد الفني، حتى لو كان مختصاً في الشأن الاقتصادي أو الرياضي أو السياسي أو حتى محرراً لصفحة الوفيات! إذ يبدو أن نقد المسلسلات مهنة من لا مهنة له!! أما السمة الغالبة على معظم هذا اللون من النقد الانطباعي عن المسلسلات التلفزيونية، فتتبدّى في تلك الحساسية المفرطة إزاء الاقتراب مما يسمى بمنظومة "القيم والأخلاق"، على افتراض أن هدف المسلسل هو الترويج لتلك القيم وتعزيز تلك الأخلاق. بيد أن هناك قاعدة أساسية في فن النقد الأدبي والفني ومعروفة منذ أقدم عصوره، وهي القاعدة التي تقول بفصل الفن عن الأخلاق. بمعنى أن المعيار الحقيقي للإبداع لا يتمثل في الموضوع وحيثياته، وإنما يتمثل في طبيعة المعالجة والتقنيات الفنية المبتكرة التي تحرك حاسة التذوق وجمالياته عند المتلقي. فالموضوعات وحيثياتها الأخلاقية (ملقاة على الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي والحضري) كما يقول الجاحظ، وإنما العبرة في أسلوب صياغتها وابتكار أدواتها الفنية. ولولا هذه القاعدة الذهبية في النقد الأدبي والفني لاندثر الكثير من الآثار الشعرية والأدبية والفنية والتشكيلية، كشعر الهجاء والنقائض والخمريات والغزل، ومسرحيات خالدة مثل "عطيل" و"تاجر البندقية" و"ماكبث"، وروايات مؤثرة مثل "ذهب مع الريح" و"أنّا كارنينا" و"دكتور زيفاكو" و"السراب"، ولوحات فنية ومنحوتات باذخة، لا لشيء إلا لأنها تحتوي على شتم وسباب، أو تمجيد للخمر وذكر للمجون، أو تمثيل للخيانات والقتل والجشع والشذوذ والعري! حقيقة الأمر أن الأديب أو الفنان ليس مطلوباً منه أن يكون واعظاً أو مصلحاً اجتماعياً أو تربوياً، بل إن وظيفته تتعارض تماماً مع هذا الغرض وتحيل عمله إلى منهج تعليمي باهت وفجّ. إن المشتغلين في الأدب والفنون ليسوا سوى مبدعين يبتكرون تقنيات وأساليب يغلب عليها الخيال والمؤثرات العاطفية التي تلبي حاجة الإنسان إلى هذا اللون من الغذاء النفسي. وقديماً تحدث أرسطو عن أهمية وأثر الفن التمثيلي في لونيه الدرامي والكوميدي أو "المأساة" و"الملهاة"، وأسهب في بيان حاجة الإنسان إلى الفنون التي تثير في نفسه الرحمة والشفقة أو اللهو والضحك، واعتبرها من الحاجات الأساسية التي تحقق الإشباع والرضى. وعليه فالمسلسلات ليست سوى وسيلة للترفيه والتسلية، وإطلاق الطاقات المكبوتة للبكاء أو الضحك، وهذه الغاية، أي غاية الترفيه واللهو أو اللعب تعدّ من الغايات العليا والسامية، وطالما أقرّ الفلاسفة بأن اللهو واللعب والتسلية أحد أهداف الحياة الحقة، وليست هامشاً أو مضيعة للوقت. وبناء على ذلك فأنا أعتقد بأن متابعة المسلسلات والأفلام ليست سوى لون من التسلية والترفيه ليس إلّا. فإن وجدنا بينها وبين حياتنا المعيشة شيئاً من التشابه فبها ونعمت، وإن شطحت وابتعدت عن الواقع فلنفترض بأن ذلك من حقوق الفنان في التخيّل والتصور ورسم الأوهام. اجلسوا أمام الشاشات واستمتعوا... فالأمر لا يستحق أكثر من ذلك.