تركيا جسر... لكن أي جسر؟!

نشر في 27-01-2011
آخر تحديث 27-01-2011 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري أدى سعيد جليلي، الأمين العام للمجلس الأعلى الإيراني للأمن القومي ورئيس وفد المفاوضين الإيرانيين في اجتماع إسطنبول، صلاة الجمعة (21/1/2011م) في أحد مساجد إسطنبول- وهو مسجد لابد أن يكون عثمانياً- ثم ذهب إلى قصر «كيرغان»- أحد أشهر القصور العثمانية وأبقاها- لإجراء المحادثات المنتظرة مع الجانب الغربي المؤلف من أبرز القوى الأوروبية وروسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية.

كان جواً «عثمانياً» بامتياز، وكان حدثاً استثنائياً لم يمر بخلد العثمانيين القدماء الذين أسهموا في بناء المسجد والقصر، إذ كيف يصل ويُستقبل بترحاب ومودة مسؤول إيراني كبير في عاصمة بني عثمان بعد الصراع المرير الذي دار بين القوتين الفارسية والتركية في قرون سابقة. لكن أن يحدث ذلك الآن، فهذه إشارة إلى تغيّر العصور، وهبوب الرياح الجديدة في آسيا والعالم، ومن ضمن الرياح الجديدة التي تمر على مضيق البوسفور ريح، «الدبلوماسية الاستباقية» التركية التي نظّر لها أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي وتعمل الحكومة التركية الحالية على تنفيذها، وهي أحوج ما يحتاج إليه الوضع المتفجر بين الجانبين بشأن الملف النووي الإيراني، واحتمالات تصنيع إيران للقنبلة، والتخوف الخليجي من انفجار الوضع بينهما بتوجيه ضربة إسرائيلية أو أميركية إلى المنشآت النووية الإيرانية، وما يستتبع ذلك من رد فعل إيراني قد يطول الاستقرار في دول الخليج.

مفهوم «الدبلوماسية الاستباقية» حسب المصطلح التركي يتضمن بذل الجهود والمساعي الحسنة قبل وقوع المشكلات من أجل «استباق» حدوثها وتجنب آثارها السيئة.

ولكن رغم كل ما بذلته تركيا من جهد (وقد نالت من المجتمعين التقدير والشكر على حسن الضيافة وجميل الوفادة... دون نتائج سياسية!) حسبما أعلنته كاترين أشتون مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي التي ترأست الاجتماع المنتظر في قصر كيرغان، ولمح إليه السيد سعيد جليلي، المفاوض الإيراني الكبير.

إن تركيا، التي لم تحضر الاجتماع، وبذلت مساعيها الحسنة وراء الكواليس لم تستطع تجسير الفجوة بين الموقفين الدولي والإيراني.

فالموقف الإيراني موقف سياسي، وهو يتساءل عن دور إيران في المنطقة من الخليج والعراق إلى لبنان، إلى غزة وربما إلى أبعد من ذلك.

والموقف الدولي يدور حول تقديم «صفقة» تقنية أكثر منها سياسية تتعلق بنسبة اليورانيوم المخصّب وإمكانات تبادله.

وهذا الموقف الدولي التقني لا يخلو من أبعاد سياسية، فهو يهدف إلى منع امتلاك إيران للسلاح النووي في ظل رقابة دولية.

وقد بدا من مواقف كل دولة أن القوى الدولية تعاني تصدعاً في مواقفها بين روسيا التي تريد «تخفيف» العقوبات عن إيران، والصين التي تواصل معها صفقات استيراد الغاز إلى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الذين يريدون تشديد العقوبات عليها والحصول على موافقتها لعقد لقاء ثنائي مباشر مع الوفد الأميركي وذلك ما لا تعارضه إيران، بل تصر على معرفة «موضوع» ذلك اللقاء وتوجهاته، قبل عقده.

ويبدو أن القوى الغربية حاصلة على دعم ضمني من الدول العربية المعتدلة، التي لا تريد أن ترى مزيداً من النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. كما أن تركيا تلعب دوراً دقيقاً وحساساً للغاية بين الجانبين الإيراني والدولي. في محاولة للتقريب بينهما ضمن دبلوماسيتها الاستباقية التي يرجو لها الجميع النجاح في هذه المنطقة.

وقبل مدة ليست بالبعيدة تحدث مسؤولون خليجيون عن ضرورة جعل دول الخليج العربية «في الصورة» لتجنب عقد صفقة بين الجانبين من وراء ظهرها.

ولكن الاجتماع الأخير لم يتضمن اهتماماً بهذا الأمر، ولم يتحدث عنه المسؤولون الخليجيون الذين طرحوه لأول مرة.

إن الرؤية الموضوعية لموقع تركيا الجغرافي بين القارتين الآسيوية والأوربية ترشحها لأن تكون «جسراً» بينهما، وفي واقع التاريخ القديم والحديث كانت تركيا المعبر والجسر لجيوش بني عثمان التي اجتاحت بلدان شرق أوروبا، وقالت إنها نشرت فيها الإسلام، قبل أن «تتحرر» تلك البلدان من الهيمنة العثمانية وتعود إلى مسيحيتها، وثقافاتها الأولى. وفي الخطاب الإيراني المعلن قالت إيران إنها قبلت باجتماع إسطنبول إيماناً منها بقدرة الحضارة الإسلامية على التحاور والانفتاح على الآخر.

ثم إن تركيا الحديثة، بعدما نفضت عن نفسها الرداء العثماني، استوعبت «العلمانية»، بل «اللاييكية» وهي شكلها المتطرف، حسبما فرضها حزب أتاتورك؛ مضيفة بذلك عنصراً غربياً جديداً إلى موروثها الشرقي.

لكنها اليوم تتصدى لأن تتجاوز هذا الدور التقليدي للتوسط بين الشرق والغرب، لتصبح جسراً سياسياً يصل بين الغرب وطهران- رغم التناقض الظاهر بين الطرفين- فهل استطاعت تركيا أن تصبح ذلك «الجسر» الطموح؟! إن ظواهر التصريحات والمواقف المعلنة لا توحي بشيء من ذلك.

وفي متابعة هذه «المواجهة»، ولمعرفة خوافيها، علينا ألا نؤخذ بالظواهر والأقوال المعلنة، فقد قيل إن الأوروبيين أخفقوا في إقناع إيران بعقد لقاء ثنائي مع المبعوثين الأميركيين إلى اجتماع إسطنبول.

وصحيح أن مثل هذا اللقاء العلني لم ينعقد، ولكن كثيراً من المتابعين للعلاقات الأميركية الإيرانية التي تبدو- ظاهراً- مقطوعة ومتوترة للغاية، يعتقدون أن ثمة تعاطياً غير معلن بين الجانبين. فمن الناحية الموضوعية أطاحت واشنطن بأشد الأنظمة المعادية لطهران في المنطقة، وهو نظام صدام حسين، مما خلصها من خصم عنيد وأتاح لها مجال الهيمنة على العراق وعلى أنحاء من الخليج، حتى قيل إنها أخذت تصنع الحكومات في بغداد عشية الاستعداد للانسحاب الأميركي من العراق. وعلى الجانب الآخر- في أفغانستان- أطاحت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بحكم «طالبان» المعروفة بشدة عدائها لإيران وبتشددها السلفي، وهذه القوى (الغربية) إن كانت «تفاوض» بعض عناصر طالبانية، من أجل حثها على الاعتدال فإنها مازالت تقاتل التطرف الطالباني الممثل لرأس الحربة «السنّية» المعبرة عن الصراع المذهبي المطل برأسه، في المنطقة والذي يتهدد أكثر من كيان فيها.

لذلك فطهران وواشنطن لا تحتاجان إلى اجتماعات «مكشوفة» وتحت أضواء الإعلام، كاجتماع إسطنبول للتواصل بينهما، ومازالت الخشية تعتري بعض الدول في الخليج- وعلى الجانب العربي منه- من أن تتم صفقة بين الطرفين بشأن الاعتراف بالنفوذ الإيراني في المنطقة، مطالبة بإشراكها في أي اتصالات ثنائية أو مشتركة، وإن كان هذا «المطلب» مازال معلقاً في الهواء، ولم يتم- حسب علمنا- الرد عليه، سلباً أو إيجاباً. إن مسألة «بناء الثقة» بين الأطراف المختلفة المعنية بالشأن الإيراني والشأن الخليجي هي مسألة في غاية الأهمية، وما لم يتم بناء هذه الثقة، فإن الأوضاع في المنطقة ستبقى على ما هي عليه وستبقى المنطقة كلها على «كف عفريت»!

ولكن، لحسن الحظ، لم تطل «فترة الانتظار»، فقد أعلن الجانب الغربي- رغم شعوره بالخيبة- في نهاية اجتماع إسطنبول أن الطرف الغربي مستعد لمزيد من المباحثات مع طهران، ثم جاء على لسان الرئيس الإيراني أن بلاده «منفتحة» على الجانب الآخر إذا أبدى احتراماً لحقوقها.

وهذا يعني أن علينا انتظار مكان اللقاء المقبل وزمانه الذي لم يتم تحديده... بعد.

* مفكر من البحرين

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top