أشعر في كل عام كما لو أن شهر رمضان المبارك، يتنازل مجبراً عن شيء من روحه لمصلحة اللحظة الراهنة!

Ad

أفهم شهر رمضان كفرض عبادة، وكشهر ممارسة دينية خالصة وخاصة جداً بين الإنسان وخالقه، وأخيراً كفسحة سنوية يمارس المسلم خلالها مسلكاً حياتياً بعينه، متلفتاً ومراجعاً مسلكه في الأشهر الماضية من السنة، وعاقداً العزم على بدءٍ حسنٍ وجديد في أيامه المقبلة.

إن طغيان الحضور الإعلامي التلفزيوني، وطغيان المائدة والطعام، وطغيان الممارسات الاستهلاكية الباذخة في «القرقيعان»، وأخيراً طغيان السهرات الرمضانية في المطاعم والخيمات الرمضانية، كل هذا مجتمعاً يجعل من شهر رمضان ممارسة حياة أكثر منه ممارسة ديانة وتعبد وإعادة حساب، ويمسح عن شهر الصوم شيئاً من روحانيته وطيبته.

نعم، إن التسابق الدرامي التلفزيوني غير المبرر وغير المسبوق، على معظم شاشات القنوات الأرضية والفضائية العربية، يصرخ ليل نهار بالمشاهد الصائم وحتى المفطر بالتسمر أمامه، ومتابعة السباق المحموم بين برامجه الدرامية وبرامج المسابقات والكاميرات الخفية، وبرامج أخرى تافهة وسخيفة ومخجلة، أبعد ما تكون عن روح شهر رمضان ومقاصده الطيبة.

لا أعرف سبباً مقنعاً في التزاحم الدارمي التلفزيوني، وكأن المشاهد العربي لا علاقة له بالتلفزيون إلا في شهر رمضان! ولا أعرف السبب وراء التسابق على شراء الطعام في شهر الصوم، لتتجاوز ميزانية صرف كل عائلة الضعف عما هي عليه في باقي أشهر العام! وأخيراً أقف مشدوهاً أمام مظاهر الصرف الباذخ وغير المبرر، في شهر الصوم والزهد والعطف على الفقراء والمحتاجين!

قد يعترض قائل بأنني أنسى ازدحام المساجد بالمصلين، وصلاة التراويح والقيام وقراءة القرآن، لكنني أقول إن عدداً كبيراً من هؤلاء يصحّ أن نطلق عليهم «عبّاد رمضان»، فعلاقتهم بالمسجد والصلاة تنتهي بمرور وانقضاء شهر رمضان، وكأن هذه العبادة لم تستطع الارتفاع بهم، لتكون مسلكاً حياتياً باقياً لما بعد رمضان!

«إن الله يحب أن يرى نعمه على عباده»، لكن أن يطغى التمتع بالنعم على روح ومقاصد شهر رمضان فهذا أمر مستغرب! رمضان شهر تعبد، وشهر صوم، وشهر تأمل في العلاقة بين العبد وربه، والعلاقة بين العبد وأخيه الإنسان، وشهر محاربة شهوات النفس والوقوف بوجه الهوى، وشهر مشاركة الفقراء شعور الجوع والعطش، وأخيراً شهر النظام، وتغليب مشاعر الروح السامية على طلبات الجسد الفانية. لكن شهر رمضان قبل هذا وذاك، شهر غريب يمرّ مرور الكرام، يمرّ مرور الزاهدين، يمرّ مرور النساك، يمرّ علينا عله بإشارة منه يترك وشماً على قلوبنا، وعله بإشارة أخرى يثير في أنفسنا شيئاً من رحمة علينا وعلى الآخر.

شهر رمضان مناسبة غالية لمزيد من الاقتراب من الله، والاغتسال من أهواء وأدران النفس، وخلوة أحدنا بنفسه، وكم هو محزن أن يضيع ذلك وسط صراخ مجنون يأكل كل شيء؟