التقيت الدكتور أحمد البغدادي مرتين، الأولى وهو يزورنا ويواظب على الحضور معنا في ملتقى الثلاثاء، الذي كان يقام في مكتب أستاذنا وعميدنا الأدبي إسماعيل فهد إسماعيل، والمرة الثانية في قصر العدل حين حوكمت الأديبتان ليلى العثمان وعالية شعيب بتهم التطاول على الدين والكتابة الجنسية. وفي ذلك الوقت أيضاً كان الدكتور البغدادي يحاكم من جراء إحدى مقالاته. ولن أتطرق إلى المحاكمات لأنني أثق بالقضاء وأنزهه عن الانسياق خلف رغبة تيار ما على حساب تيار آخر. المهم في الموضوع هو الرجل الذي رحل شامخاً مناضلاً بقلمه نحو تحرير العقل من سطوة الوهم.

Ad

في ملتقى الثلاثاء كان حضور البغدادي دعماً قوياً لنا نحن الكتاب، وكنا ننتظر تعليقاته ونقاشه لما نطرحه من أفكار، إلا أن العكس هو ما كان يحدث، فالرجل كان يتمتع بأدب الإصغاء، ويستمع أكثر مما كان يتكلم، وفي كل مداخلة يقدم اعترافه بأنه ليس ناقداً أو أديباً، وإنما جاء ليستمع لما يقوله الشعراء والروائيون. وفي عودة ملتقى الثلاثاء ثانية في العام الماضي انقطع البغدادي عن الحضور وهو يحمل جسده المرهق من مشفى الى آخر.

حياة البغدادي أغضبت أقلام الإسلام السياسي ووقوفه في وجه أطروحاتهم الداعية إلى تغييب العقل والتشكيك في العلم، وتقديمهم التهم الجاهزة لأصحاب العقول العلمية، واتهامهم باتهامات لا أساس لها في الواقع وإنما محاولة إبعاد الناشئة عن الاستماع والقراءة لهؤلاء "الليبراليين" "العلمانيين"، وربما كان آخر هذه التهم التهمة /النكتة التي أطلقها أحدهم بأن العلماني ناكح أمه. هذه الأقلام لم تجد ما ترد به على أصحاب النظرة العقلية سوى توزيع الاتهامات الشاذة وتقديمهم للمحاكمات تحت قوانين الحسبة. وقادت هذه القوى الدكتور البغدادي الى القضاء ليأتي متواضعاً واثقاً من كل كلمة قالها وحقه في قولها. الدكتور البغدادي لم يكن قلماً راجفاً خائفاً من ضجيج الأصوات، وبقي "وتداً" صلباً في زاويته أوتاد يعمل نحو الخروج من الماضي والإقرار بفشل المشاريع المتحجرة التي تستمد فكرها من الكتب الصفراء، ولا تستطيع أن تنظر الى الأمام وأعناقها مشرئبة الى الوراء.

كان البغدادي يحلم بجيل شاب يستطيع النظر بجدية الى مشروع عقلي يحرر الإنسان من سيطرة الفكرة الدينية القديمة، ويفرق بين الإسلام وتسييس الإسلام، بين العقل المعاصر وحضارته العملاقة والحياة التي يشدنا إليها أصحاب الدشاديش القصيرة واللحى الطويلة، بين أن نجد لنا موقعاً فاعلاً في عالم اليوم أو الخروج كلياً من المنافسة الحضارية. ومعركة البغدادي التي لن ندعي أنه كسبها أو خسرها، ولكنها معركة قائمة ومستمرة، تفرضها تعددية الفكر المعاصر واختلاف مناهل هذا الفكر، هي معركة الشجاعة في طرح الفكرة وبغض النظر عن وقوفنا معها أو ضدها، فلقد علمنا البغدادي أن نقول ما نؤمن به وما نرى أنه طريق بلدنا للتقدم ومواكبة النهضة التكنولوجية دون التخلي عن إيماننا.

الرسالة الأخيرة موجهة إلى تلاميذ البغدادي الذين حمل عنهم أو معهم مشعل الحرية الفكرية: لقد رحل البغدادي عن عمر قصير لم يكمل من خلاله مشروعه العلماني الكبير، وترك لكم جرأته في الطرح، وأعلم أن أغلبكم صامت فإلى متى يستمر صمتكم؟