في أحد أهم التجارب القصصية الكويتية وأكثرها نضجاً، تأتي مجموعة الكاتبة باسمة العنزي لتصنع ما يشبه الرافد الأساسي لنهر القص عن العوالم المهمشة والمنسية في فترات مهمة من فترات البناء السوسيولوجي والديموغرافي للكويت الحديثة. "الفردوس" المفقود الذي أعادت باسمة تشظيته وإعادة بنائه لم يكن يحمل في ذاته سوى اسمه دون صفاته، ولم يكن لساكنيه أن يدّعوا البراءة أو العيش كأناس لم يقترفوا شيئا صالحا ليمنحوا أرضا مالحة تم بناؤها دون تدخل منهم فأقاموا فيها حيلهم الخاصة للحياة.

Ad

تحذّر باسمة العنزي قارئها منذ البداية بأن يقرأ ظهر الورقة التي خبأتها عنه لا وجهها المنقوش بالتفاصيل الصغيرة لأبطال، اختارت الكاتبة أقدارهم بمحض النبوغ واهتزاز المخيلة عن صور تقرأها هي كما تشاء ونقرأها نحن كما نشتهي. في أكثر من عمل وفي أكثر من منزل من المنازل التي وقع عليها الاختيار القدري تتبارى الرموز بين المعلن والمسكوت عنه وبين الغامض والأكثر غموضا وبقيت أكثر من شفرة حل طلاسمها مرهون بالذين تقاطعت أقدارهم وأقدار الأبطال المنتخبين لهذ الملهاة القدرية. تبادل الأدوار بين الشيخ القبلي وبين نثّاج البطل القادم من النص السابق الى نص "الحاشي" الذي يلعب بطولته الشيخ وابنته التي تحلم بأن تعيش الواقع لا أكثر ولا أقل.  نثّاج الرجل غير المؤهل لخلل في أسرته ولخلل في مكانته يقدّر له أن يلعب دورا في تحديد أقدار الآخرين فيحرم ابنة الشيخ من مواصلة تعليمها تاركا ابنه في المنزل/ النص السابق يمارس مهنة التمثيل، دون أن تتدخل الراوية أوالمؤلفة في أي تعليق يخص ثنائية الذكر/ الأنثى. "الرجال في رقصتهم التاريخية التي تغيرت ملامحها بعد أن توارت الحاشي خلف خبائها الجديد"، تلك شفرة الماضي التي تركت دون أن يستطيع قارئ باسمة المحتمل أن يرسم تفاصيل هذه الصورة وفي نفس الوقت لم تستطع القصة نقلها تحت وطأة البناء القصصي وتكثيفه. وهذه الشفرة هي الدلالة السيميائية الوحيدة التي تشير الى عنوان النص.

هذا المزج الحامض بين الحاضر المنتقص والماضي المجتزأ يجعل النظر الى المستقبل ضربا من المستحيل والأعوام العشرون الانتقالية من حال الى حال لم تسعف الابنة في أن يتقبل عالمها الأصغر تفهم أحلامها تحت وطأة تأثير الانفصال عن عوالم أخرى لا يتقاطع معها ولا يثق بها. هذه المنازل التي حاصرتها أقدارها وتداخلت عوالمها بين وقار شيبها واستهتار شبابها واضطهاد نسائها ووحشة بيوتها. المنازل التي تعاني عدميتها رغم سكانها وحيواتهم التي تركت جرحا غائرا في ضمير الراوية وكأنها مسؤولة عن الأقدار التي رسمتها يد المؤلفة.

تحتاج المتتالية المكانية التي رسمتها الزميلة باسمة العنزي وقفة نقدية أكبر ولكن الأهم هنا هو تفوق باسمة العنزي المستمر على باسمة العنزي، هذا التفوق يبشرنا دائما بإخلاص الكاتب وسطوة النقد الذاتي عليه. عبر المجموعتين السابقتين لباسمة تحتل هذه المجموعة مكانة أكثر ابداعا وادهاشا معتمدة على لغة صافية والتقاطات ذكية وثبات في مستوى القص وأفق اللغة الجميلة وصورها المدهشة. "كل مساء يضعون قلوبهم قرب أحذيتهم"، "علي أن أنتزع عباءة أمي من فم الشمس". هذه الصور الأخاذة لم تأت جملا عبثية القصد وانما جمل افتتاحية تقودنا عبر منعطفات القصة الى جوهرها.

رغم ايماني بصعوبة القصة القصيرة فإن باسمة تمتلك باقتدار مؤهلات العمل الروائي والنجاح فيه وأتمنى أن أرى لها رواية تتناول حياة الناس الذين زرعتهم القرعة الاسكانية على جانب الطريق السريع. والخصوصية التي تحدثت عنها في قصة الحاشي وصعوبة أن يدركها القارئ الكويتي والعربي وربما الجيل الجديد من أبطال المجموعة تمنحها الرواية حقها في الشرح والتفصيل.