كنت أقرأ في كتاب "نبت الأرض وابن السماء" للدكتور محمد الأحمري، الذي أطل من خلاله على بعض اختيارات ونصوص الرئيس الأسبق علي عزت بيغوفيتش، ذلك العملاق السابق عصره، حول مسألة الحرية ورؤيته لآفاق الروح والفن، فاستوقفتني الفقرة التالية حول بيغوفيتش وهو يتحدث عن برنامج تلفزيوني رآه عن الزهور وما توحي به من عجائب وبديع صنع، فكتب يقول: "شعرت وقتها بقربي من الله أكثر من أي وقت مضى عن طريق الصلوات... إذا كانت الصلاة في الروح وليس في الكلمات والحركات، فإنني وفي أثناء مشاهدتي هذا البرنامج مارست أعمق الصلوات"... وبعد أن كتب عن الزهرة، ومكوناتها وطريقة عملها قال: "إن ذلك بالنسبة لي حدث ديني ممتاز، فالصلاة في داخل الروح وليس في خارجها، كان هذا صلاة حقيقية وصادقة أكثر من أي صلاة قمت بها في حياتي".

Ad

حين قرأت هذه الفقرات، استحضرت حديثاً دار بيني وبين صديق لي في رمضان حول صلاة القيام، حيث قال لي يومها إنه توقف عن الذهاب إلى صلاة القيام في المسجد، وحين سألته عن السبب، أجابني بأنه فقد القدرة على الخشوع هناك، مع جلبة الناس وحديثهم في آخر المسجد، وحركة دخولهم وخروجهم، وأنه وإن كان يدرك أجر الصلاة جماعة، فإنه صار يشعر بأنه يمارس حركة ميكانيكية فارغة من المضمون الحقيقي، لذلك استعاض عن ذلك بصلاته للقيام في هدوء بيته، وأنه صار يجد سكينة كبيرة وهو يقرأ من مصحفه بنفسه، ويتمعن في الآيات ويتفكر في معانيها.

لست هنا، في مقام التأييد أو المعارضة، لما فعله صديقي، إنما مقصدي التوقف عند فكرة "الخشوع"، تلك الحالة الروحية التي يقترب فيها العبد من خالقه وينفصل فيها عن المادة، تلك الحالة التي عجز صديقي عن الوصول إليها في المسجد في صلاة القيام، وشعر بها في خلوته وانقطاعه في معتزله.

بيغوفيتش قفز بهذا المفهوم، أعني مفهوم الخشوع، نحو عمق أبعد ودلالة أكثر كثافة، حيث رأى أن كل حالة تدبر وتفكر في ملكوت الخالق وعظمة صنعه هي صلاة، لا أقول صلاة بمعناها المعروف طبعاً، إنما صلاة بمعنى الاقتراب من الله ومن عظمة خلقه وعظيم سلطانه ودفء رحمته وعطفه، وأن كل عمل خالص لأجل الخير الصرف، للناس وللأرض وما عليها، هو عمل يثيب الله صاحبه عليه، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وإما فيهما معاً. (وبالطبع فهذا الكلام لا يعني أن ذلك يغني الإنسان عن الصلاة المفروضة على المسلم، حتى لا يساء الفهم).

ومما يروى عن العباس رضي الله عنه أنه قال: "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها"، وهو القول الذي يتوافق مع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الرجل لينصرف؛ وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها"، وهذا دليل على أن القيمة الحقة المستخلصة من الصلاة مرتبطة بتلك اللحظات التي يخشع فيها المرء لله عز وجل، وذات الأمر ينسحب بداهة على كل تفكر وعمل، فإن كان مرتقياً بالإنسان ومقرباً إياه إلى الله، فإنه مثاب عليه، وإن كان صادراً من المادة عبر المادة لأجل المادة، ولم يمر في قنوات الخشوع الروحاني، فإنه بلا مثوبة.

هذه المفاهيم المختلفة، تشير في مجملها إلى أن الاقتراب من الله عز وجل، ليس بظواهر الأعمال وهيئاتها الخارجية، إنما بما يبطن في صدور الناس وضمائرهم، وأن كثرة صلاة المرء في الظاهر، قد لا تعني عند الله الكثير، إن هي كانت خالية من الصلاة الداخلية، وهي ذاتها الصلاة التي يمكن أن يمارسها الإنسان في سائر أعماله وتفكراته.

وحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، حين قال: "رب أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره"، يقفز بنا أيضاً إلى جلاء أكبر في هذا الصدد، حيث يكشف لنا أن من الناس، من قد لا يؤبه له ويزدريه من حوله، وإذا به بنقاء روحه، وبخضوعه وبخشوعه لله، أي بصلاته الداخلية، من القرب لله أنه لو أقسم على الله لأبر بقسمه.

أدرك أن هذه المعاني قد لا تكون في ظاهرها جديدة على غالب الناس، وأنهم يدركون أن "الأعمال بالنيات"، أي بباطن ما يضمره المرء تجاهها، لكن هل ترانا نستحضر الفكرة في كل حين؟ وهل ترانا نستشعرها في كل عمل؟ وهل ترانا نمارس الصلاة الداخلية في سائر أمورنا، حتى أبسطها؟ وحتى لو كانت ببساطة التفكر في كيف خلق الله الزهرة؟! هذا هو السؤال... وهذا هو مدار الأمر كله!