لا يختلف اثنان على أن قطر عندما عزمت خوض السباق المونديالي حددت الهدف بدقة وخططت جيداً، فأعدت ملفاً محكماً ضمّنته عناصر النجاح والتفوق، كما أنه لا خلاف في أن آداء الفريق القطري كان مذهلاً، فكان ذلك الإعداد الجيد وذلك الآداء المبهر عاملين كبيرين في بث القناعة والثقة لدى غالبية أعضاء اللجنة التنفيذية بأحقية قطر باستضافة مونديال 2022، وكان بيكهام- النجم الإنكليزي- أبدى إعجابه بالعرض القطري وصرح قبل التصويت بأن الأداء القطري أقنعه بفوز قطر، والحقيقة أن جميع من شاهدوا العرض النهائي القطري رجحوا كفة قطر، كما أن المحلل الكويتي خليل حيدر علل الفوز بالصورة الجميلة التي قدم الفريق القطري نفسه للعالم، فقال "لقد قدموا صورة عائلة قطرية متآلفة متحابة متفاهمة، حريصة على مصالح بلادها، واثقة من قدرتها، بقدر ما هي راغبة في الانفتاح على العالم".
وتحدث كثيرون وكتبوا وعللوا فوز قطر وربطوه بالملف والعرض المتقنين، ولكن هل- حقاً- فازت قطر بسبب ملفها فحسب؟ لو كان الأمر كذلك لما عجزت الدول المنافسة العريقة في إعداد الملفات، إننا بذلك نبخس الجهود الإنسانية الضخمة لقطر التي سبقت ومهدت لهذا الفوز، هناك "الملف الأكبر" لدولة قطر الذي يتضمن سلسلة من الإنجازات الممتدة عبر 15 عاماً في المجالين الداخلي والدولي، هي التي أهلت قطر لشرف الاستضافة في مواجهة الكبار، هذا الفوز محصلة نجاحات حققتها القيادة القطرية منذ أن تولى أمير قطر مقاليد الحكم.ولو نشطنا الذاكرة- والفرحة تغمرنا هذه الأيام- فإن حديث الذكريات يعود بنا إلى صبيحة ذلك اليوم الذي أشرق فيه فجر عهد جديد على قطر، حين عاهد الأمير الشعب القطري على تحقيق إصلاحات شاملة، تبوئ قطر مكانتها اللائقة: خليجياً وعربياً وإسلامياً ودولياً، وصدق الأمير عهده فأصبحت قطر دولة عصرية رائدة، لها مكانتها ومصداقيتها العالية، وأصبحت رقماً مهماً في المعادلات الدولية، ولها صوت مسموع على الصعيد الدولي في القضايا الإقليمية والدولية المختلفة، هذا النجاح المونديالي هو نجاح للسياسة الخارجية القطرية التي اعتمدت ركيزتين أساسيتين: العقلانية والواقعية، منهجاً استراتيجياً في العلاقات الدولية، وهذا مكّن قطر أن تكون على مقربة من الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة، فتكسب ثقتها وتتمكن من استثمار هذه العلاقة في بذل المساعي الحميدة وتقريب وجهات النظر بما يساهم في حل الأزمات العالقة وخدمة السلام العالمي، نجحت قطر عبر "صيغة نموذجية" لعلاقاتها بالدول الكبرى خصوصاً أميركا من ناحية، أن تحتفظ بعلاقات متميزة، أيضاً بالدول والأطراف المناوئة لأميركا والغرب- من ناحية أخرى- وهذا أهّلها أن تلعب دور الوسيط المقبول بمهارة عالية، ولذلك قالوا: حين تتأزم الأمور فقطر هي المؤهلة للحل.إذن هذا الفوز، ما هو إلا حصاد لثمار تلك السياسات الناجحة والجهود الدؤوبة للقيادة القطرية في بناء علاقات متميزة مع دول العالم المختلفة، وهو أيضاً، "شهادة تقدير" من المجتمع الدولي لهذه الدولة التي استطاعت أن تتحدى محدودية المكان والسكان لتحقق إنجازات مشهودة في تدعيم السلام والتنمية والاستقرار، ولتساهم في إطفاء بؤر النزاع وإصلاح ذات البين من خلال دور الوسيط ذي المصداقية، ترى من كان يستطيع حل أزمة الفرقاء اللبنانيين حين انسدت الطرق ولاح شبح الحرب الأهلية، غير قطر؟يصف الجارالله- الصحافي الكويتي- دور أمير قطر في حل الأزمة اللبنانية فيقول "سيذكر تاريخنا العربي، أن عربياً من هذا الخليج المعطاء، غامر فغلب الشدائد والمكائد، وانتصر في حل قضية ظن العالم كله أن أطراف النزاع فيها لن يلتقوا"، إن مساعي دولة قطر في تدعيم السلام العالمي شملت حل أزمات عديدة: أزمة الشمال والجنوب في السودان، أزمة دارفور، أزمة الحوثيين في اليمن، أزمة الممرضات البلغاريات في ليبيا، القضية الفلسطينية، الانقسام الفلسطيني، الأزمة اللبنانية الحالية، ولن يقتصر الدور الحيوي لقطر على المساهمة في حل الأزمات العالقة فحسب، بل دعم عمليات التنمية وإعادة البناء والإعمار وبناء المدارس والمستشفيات والمساكن والكليات في مختلف بقاع العالم أيضاً.كما أن هذا الدعم لا يقتصر على المساعدات الإنسانية والاستثمارات المتنوعة، بل إن سمو الأمير- حفظه الله تعالى- أكثر زعيم عربي إسلامي، تحركاً وزيارة وتفقداً لمناطق العالم المختلفة، نشراً للسلام ودعماً للتعاون ولم الشمل وإصلاح ذات البين ومد يد العون، وكان هو أول زعيم عربي يزور موقع هجمات 11/9 في 2/10/2001 ليقدم التعازي للشعب الأميركي وليعبر عن رفض العرب والمسلمين لتلك الأعمال الإجرامية، كما أن لقطر دوراً حيوياً آخر في نشر "ثقافة التسامح" عبر استقطاب واحتضان الدوحة لمعظم المؤتمرات الحوارية التي تساهم في التقريب بين بني البشر، تعزيزاً للمشترك الإنساني والثقافي والديني، ولا أدل على حرص قطر على ترسيخ ثقافة التسامح الديني من إنشائها- ولأول مرة في تاريخ قطر- مجمعاً للكنائس، ولا تبخل قطر في سبيل تحقيق هذه الأهداف الإنسانية لا بالجهد ولا بالمال.في تصوري أن هؤلاء الـ(14) الذين صوتوا لقطر، إنما استحضروا هذا الدور الحضاري لقطر، وصوتوا تقديراً لإنجازاتها على صعيد خدمة السلام العالمي وتعزيز القيم الإنسانية ودعم تقارب البشر، صوتوا إعجاباً بمساعي قطر الخيرة في حل الأزمات ونزع فتيل التوترات، وقد يقال إن المنافسين لهم أيضاً إنجازاتهم وخدماتهم الإنسانية، لكن المقارنة خاطئة، فقطر هذه الدولة المحدودة المساحة والسكان، استطاعت قيادتها أن تحقق كل هذه الإنجازات كما نجحت في قيادة التغيير والتحول في المنطقة وفي فترة قياسية قصيرة، هي الأولى بإعطائها الفرصة مقارنة بالآخرين، وقد عبر الشيخ محمد بن حمد عن هذه المعاني بذكاء ومهارة، عندما خاطب الفيفا "شكراً لإيمانكم بالتغيير... لإيمانكم بتوسيع رقعة لعبة كرة القدم... شكراً لمنح قطر الفرصة" كما أحسن "الذوادي" اللعب على هذا الوتر الحساس بقوله "أمام الفيفا فرصة العمر لتغيير مشاعر وأفكار الناس عن الشرق الأوسط... عرض قطر يمثل فرصة لحدث يؤدي للتحول" إذن: توسيع الرقعة، وتغيير المشاعر والأفكار، والتحول، هي الأهداف التي تحرص عليها لجنة "الفيفا" ورئيسها بلاتر كمنظمة عالمية تسعى من خلال الكرة إلى نشر رسالة تقرب بين البشر وتزيل الحواجز السياسية والثقافية والجغرافية بينهم، هؤلاء لا يريدونها أن تكون دولة وحكراً بين الكبار، فهذا يضعف مصداقيتهم، لذلك أرادوا إعطاء الفرصة لآخرين مؤهلين، ودع عنك حديث المال والفساد والرشاوى، فالآخرون عندهم من المال والإمكانات الكثير، هؤلاء الذين صوتوا لقطر كانت ثقتهم فيها عالية، بدليل أن قطر كسبت 11 صوتاً في أول جولة، ولو كسبت صوتاً آخر لحسمت القضية من البداية، قطر لم تفز بمالها ولا بمجرد ملفها المحكم، لكن بسمعتها العالية وبمصداقيتها الراسخة، وبعلاقاتها المتميزة، وهذا ما عبر عنه رئيس الاتحاد الأميركي لكرة القدم "سونيل جولاتي" عندما سئل: كيف فازت قطر؟ قال: إن التحركات السياسية والصداقات والتحالفات والخطط رجحت كفة قطر على أميركا، إذن ففوزنا هو حصاد لثمار ما زرعته قطر من إنجازات إنسانية مشرفة، فأنت في النهاية تحصد ثمرة ما زرعت، على أن عناصر النجاح القطري في كسب المصداقية الدولية لا تكتمل إلا بالقول بأن نجاح السياسة الخارجية ما هو إلا امتداد أو انعكاس لنجاح السياسة الداخلية في تحقيق إصلاحات شاملة من أبرز دعائمها:1 - إصلاح اقتصادي مدروس: تمثل في تحرير الاقتصاد وتشجيع القطاع غير الحكومي ليقوم بدور رديف للدولة في حمل أعباء التنمية، وتوفير بيئة اجتماعية وقانونية جاذبة للاستثمار والسياحة، تعتمد الشفافية، وكان من ثمرتها تصدر قطر دول المنطقة في النزاهة والشفافية بحسب تقرير "منظمة الشفافية الدولية" 2010، وتقدر قيمة مشاريع البنية التحتية التي تنفذ حالياً بـ100 مليار دولار، لكن الطموح القطري يستهدف زيادة السياح إلى 1.5 مليون سنوياً عبر مشاريع عملاقة تعد الأكبر في المشاريع السياحية في المنطقة، وتخطط قطر- بحسب بعض التصريحات- لأن تكون المركز الأكاديمي والمركز الرياضي والمركز السياحي الرئيسي لمنطقة الشرق الأوسط، مما يؤهلها أن تكون "سويسرا" الشرق الأوسط، وتعتبر دولة قطر أحد أكبر 5 أنظمة اقتصادية متزايدة النمو في العالم.2 - إصلاح تعليمي متميز: يعتمد التطوير المستمر للنظام التعليمي ومناهج حديثة وتدريبا متطورا بالاستعانة ببيوت الخبرة العالمية، والانفتاح على أنماط من التعليم العالي المتميز: كورنيل للطب، فيرجينيا كومنولث للتصميم، الهولندية C.H.N للفندقة والسياحة، شمال الأطلنطي الكندية، كارنغتون ميلون، إضافة إلى جامعة قطر وغيرها مما يوفر فرصاً أمام الطالب القطري للاختيار، إلى جانب مؤسسة قطر للتربية والعلوم والتنمية التي تشرف وترعى هذه المؤسسات، إن تطوير التعليم يحظى بأهمية استثنائية لدى أمير قطر الذي صرح عند افتتاحة للمدينة التعليمية 2002 "إن هذا الحدث يفوق في أهميته أي مشروع اقتصادي أو صناعي".3 - إصلاح سياسي متدرج: تجسد في أول دستور دائم، تم إقراره باستفتاء عام شعبي مؤيد بنسبة 97% كفل الحريات العامة واعتمد نظام الفصل بين السلطات، كما تم إجراء أول انتخابات عامة مفتوحة للجنسين لاختيار المجلس البلدي، وجاءت قطر في مركز متقدم للحريات الإعلامية في تقرير "مراسلون بلا حدود".4 - إصلاح اجتماعي منضبط: تجلى في تمكين المرأة من المشاركة العامة والمناصب القيادية، وأنشئ المجلس الأعلى للأسرة للنهوض بالمرأة وتولت أول امرأة قطرية الوزارة وإدارة الجامعة وكلياتها والقضاء، وهذا الانفتاح محكوم بضوابط شرعية .ويبقى أن نقول إن وجود الشيخة موزة في الفريق القطري، بحضورها الفعال وبأدائها الأخاذ كان لها فعل السحر في بث القناعة، لقد شاهد العالم سيدة قطرية خليجية عربية مسلمة، واثقة من نفسها، ملتزمة بدينها، منفتحة على العالم، تخاطبهم بطلاقة، وتناقشهم بمنطق العصر والعدالة: "متى سيأتي بالنسبة لكم الوقت لكي ينظم الشرق الأوسط كأس العالم؟"... كان وجودها هو الضمان لمصداقية قطر في مبادئ العدالة والإنصاف والتسامح، وهو العامل الأقوى في تفوق الملف القطري، هذا المشهد الرائع يذكرني بما كنت أطالب به منذ 3 عقود، بإفساح المجال أمام المرأة القطرية للمشاركة في الحياة العامة، وتناولتني ألسنة حداد ومنابر غاضبة وأقلام مستنكرة: كيف تجرؤ وتطالب بخروج المرأة للحياة العامة؟! وساندتها في ذلك الوقت "بيئة مجتمعية" محكومة بموروث لا يرى المرأة أهلاً للمشاركة، لكن القيادة السياسية نجحت وفي خلال عقد من السنين أن تغير البيئة الثقافية والاجتماعية، ولم يجد "حراس الماضي" خياراً إلا أن يتغيروا إلا قليلاً تخندقوا ومازالوا يحاربون طواحين الهواء! أتساءل اليوم أمام هذا التجلي الرائع للشيخة موزة ودورها الإنساني الجليل: لو استمعت القيادة السياسية، لتحذيرات وتخوفات وتهويلات حراس الماضي من خروج المرأة للمشاركة العامة، فهل كان الفوز متصوراً؟! وبعد: فوز قطر بالمونديال، أمر ذو بال، وتداعياته الإيجابية ستغمر كل دول المنطقة، لكن الانتصارات تعقبها "تحديات" وقطر أهل لها، والأشقاء في دول مجلس التعاون سند وعون، ونحن اليوم أمام منعطف تاريخي نستقبل فيه مرحلة جديدة لها استحقاقاتها أمام المجتمع الدولي، لذا علينا اغتنام كل دقيقة، وأتصور استراتيجية تقوم على: 1 - إعلان العد التنازلي لإنجاز المشاريع والمنشآت. 2 - استقطاب الكوادر القطرية وتنشيطها وتوظيفها في خدمة الملف المونديالي. 3 - تطوير التشريعات المتعلقة بالبيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقانونية والسياحية والإعلامية وكذلك المتلعقة بالحريات العامة وحقوق الإنسان والطفل والمرأة. 4 - اعتماد لحظة الفوز التاريخية، لحظة فاصلة بين مرحلة مضت بسلبياتها وإيجابياتها، ومرحلة قادمة تتطلب رؤية مغايرة وتخطيط كفؤ وإدارة متطورة وعناصر بشرية متفانية. الفوز فرحة عامة، لا مكان فيها للتشفي بالانتصار على الخصوم، علينا تغليب الإيجابيات والنظر إلى المستقبل بآمال واعدة.* كاتب قطري
مقالات
كيف كسبت قطر الرهان المونديالي؟
13-12-2010