في «ترمي بشرر» وصف دقيق لأوضاع نفسية يمرّ بها «المخطئون» أو «الطامحون» لا فرق، إذ وضعهم الروائي السعودي عبده خال في خانة واحدة، مع فارق أن لكل منهم مسلكاً اتخذه للوصول الى ما هو عليه.

Ad

أحوالهم وحياتهم كانت عذراً ووسيلة تعزية لـ{طارق». لم يبرر خال أفعال بطل الرواية مباشرة، ولم يكن هجومه عليه قاسياً وألقى بالأسباب على كتف «السيد»! أليس هو من طمر البحر، ودفن معه آمال الحي وتطلعاته إلى العيش في «الحفرة» بشكل كريم؟ ألم تكن تلك الإضاءات التي تزين قصر «السيد» سبباً في رغبة صبية «الحفرة» للخروج من «الجب»؟ مركبة السيد التي كانت تمرّ في طريقها الى «البوابة» ومراكب الصيادين القديمة، وكلاب الحارة... وتهاني! كلها كانت مسببات لخروج طارق من «الحفرة» المظلمة، وإن كانت تهاني وحدها تكفي لـ{الخروج» من «الذنب» والصعود الى سفح جبل أغراه لونه الأخضر بتسلّقه، جاهلاً أن قمماً كثيرة تحتضن فوهات تخمد أحياناً، وتثور «رامية الشرر» على من حولها أحياناً كثيرة، وبالتأكيد الدمار والموت هما جزاء الجالس على «متنفّس» البركان... وهذا مصير من يلعب بالحمم!!!

تحدّث خال في روايته كثيراً عن أسامة، وهو على رغم أنه بصفته لم يكن مهماً في حياة طارق، إلا أنه كان الجرس الذي ظلَّ يرن في ذاكرته الرافضة محاولاته كافة لنسيان «شرارة» تهاني، وأصبح مثل المتّقي بالنار من الرمضاء!

مصطفى القناص، ياسر المفلت وزوجته، شهلا، موضى، العمة خيرية، عمر القرش، شمعة وآخرون... أتت نبذة عن حياتهم في آخر الرواية، هؤلاء ساعدوا على سير الرواية الملتوي. مثلاً، امتدح «طارق» القرش، إلا أنه عاد وتذكّر موقفه معه... عندما كان لا يزال غضاً!، هذا الموقف تداعى الى ذاكرته عندما رأى عمر مسؤولاً عن يخت «السيد»!

أحداث مترابطة

أحداث «ترمي بشرر» مترابطة بذكاء قد يستعصي على القارئ العادي فهمها، فما كان في البداية عاد وأصبح مبرراً لنهاية يجب أن تكون ما آلت إليه، وتنفيذ أمر «السيد» بسلب رجولة عيسى عقاباً على التطاول على مقام الأسياد بالزواج من موضى، وإن كان مقززاً في ردة الفعل الأولى، إلا أنه تحول في خاتمة الرواية الى قصاص عادل لأعمال الرديني التي قام بها تجاه مريم... أو مرام ووليد زوج خالته سلوى!

ترتفع الحواجب وتزمّ الشفاه وتنعقد النواظر وهي ترى تطبيق طارق المحرمات كافة التي يطلبها منه «السيد» على أرض الواقع، وتختفي الأعذار كافة التي يصوغها البطل لأفعاله، ومحاولته إلقاء اللوم في أفعاله على «القدر»... وعلى تهاني!

«أرغيد» كان المطرقة التي انهارت على رأس طارق، وأخوه «ابراهيم» كان «فكرة» للحياة الفاضلة التي وإن كانت جميلة إلا أنها عادية وبسيطة... وفقيرة، لكنه تمناها بعد أن تلوّث «بالشذوذ».

أما ابن اخيه طارق فكان إشارة ورسالة من كاتب الرواية إلى أن الشر لن يزول بزوال الأشخاص، فهو موجود في الجينات البشرية وينتقل عبر الأجيال، والقضاء عليه لن يكون في دور العبادة أو في الأماكن الإنسانية، وقد تكون بداية محاربة الباطل بتغيير الأسماء والقضاء على «السيد» وأفكاره.

وتهديد «البطل» في النهاية بقتل «السيد» الذي «لعب» بشرفه... حسب الفهم السائد لدى أهل «الحفرة» كما يقول، لم يكن يعني به «السيد» بذاته، بل كل ما يمثله من أعراف وتقاليد سواء تضمنتها الشرائع الأرضية أم كانت منزلة من السماء!!! ألم يقل طارق إن «الدين هذا النفق الذي يسلكه الجميع لتبرير الغايات النبيلة والحقيرة»... وإن الجميع «يسلكه للوصول الى مقر المصنع الخلفي حيث تفصل وتطرز الملبوسات لارتدائها في المناسبات التي تحتاج الى الوجوه الصقيلة والعابسة، ولكل تصميم طريقة لبس وحركة»!!؟

ألم ينسب خال الى طارق قوله: «كل فكر هو فخ لمن ضلَّ عن إيمانه الخاص، وتنشأ الحفر في مناطق منخفضة من سطح الحياة، ومع امتلائها لا تصل الى السطح بتاتاً، تبقى مغمورة كفخ أو ماء آسن»؟

«أولاد حارتنا»

تتشابه «ترمي بشرر» في نواحٍ كثيرة مع «أولاد حارتنا» مع تبادل الأدوار، ففي الثانية كان «البيت الكبير» هو القصر، وعلى أطرافه بنيت «حارتنا» فوق أطلال منزل أدهم وأميمة، وفي الأولى كانت «الحفرة» وبعدها جاء «القصر» وحاصرها براً وبحراً!

في «أولاد حارتنا» منعت الرذيلة من «البيت الكبير» فيما كانت السمة الأساسية في «القصر»، وتشاركت الروايتان في توزيع الخير والشر على الحارتين وإن كانت لدى عبده خال أكثر صراحة... وبذاءة!

«السادة» في «ترمي بشرر» معقّدون وسلطاتهم الواسعة استخدمت لإرضاء شهواتهم وتحويل حياة الناس الى «دابة» يربطونها أينما يريدون... وينحرونها متى شعروا بالملل، و{سادة» خال جاءت مكانتهم بالوراثة... فحسب لأن آباءهم «سادة».

لدى نجيب محفوظ، كان «الكبير» مثالاً للقيم النبيلة والمثالية، وأولاد الحارة كانوا هم من تخلّوا عن هذه القيم.

ارتكز محفوظ على التاريخ الإنساني في سرد «أولاد حارتنا»، ولم يستخدم اللغة فيها بشكل إبداعي، بل كان التركيز على الأحداث... وعلى موت صاحب «البيت الكبير». بدوره، تفنن خال في عرض مكنونات «العربية» وأجاد تسخيرها في الرواية مظهراً عبقرية أدبية في تطويع الكلمات ومستخدماً تعابير وأمثالاً ساعدته في إيصاله الى مبتغاه من الرواية مبحراً في دهاليز المفردات الراقية والمخبأة في صدور أبناء الجزيرة... وبين غبار أمهات الكتب.

كذلك، لم يكتف الكاتب بالمفردات «الراقية» من «العربية»، بل تعامل بحرفية ومهنية عاليتين مع البذيئة منها، وأدخلها بين الفقرات والعبارات حتى كادت أن تكون...هي الرواية.

الأديب السعودي عبده خال استقى «ترمي بشرر» من الواقع الحديث، المخلوط بما حدث قبل نحو 1400 سنة هجرية في جزيرة العرب.