رغم أنه صار من النادر أن ينتزع كتاب من كتب التنمية الذاتية إعجابي المطلق، فإنني لم أتوقف عن قراءتها ولا حتى عن اقتنائها، وذلك لقناعتي بأن خروجي منها ولو بفكرة جوهرية تغييرية واحدة من بعد ألف صفحة وصفحة، يستحق كل العناء والتعب. تميل مشاعر الإنسان نحو التبلد كلما مرت به التجارب وكلما تعرض لذات المثيرات، فالطبيب غالباً ما يفقد التأثر بمشاهد الدماء مع كثرة ملامسة الجراح، ورجال الأمن غالبا ما يفقدون الشعور بحرارة الدموع مع كثرة مشاهدتها، وهكذا دواليك. والقارئ كذلك، قد يفقد الإحساس بحرارة الكلمات فلا يرى وهج الأفكار مع كثرة المطالعة والقراءة، خصوصاً حين لا يخرج المكتوب عن دائرة المألوف والمستهلك من الأساليب والتجارب.

Ad

وأكثر الكتب عرضة لفقدان قدرتها على التأثير، في ظني، هي كتب التنمية الذاتية، فهذا المجال يكاد يكون قد وصل اليوم إلى حالة من التشبع، والقراء المتعمقون فيه قد صاروا يدركون أن كل كتاب جديد يصدر فيه ما عاد يحمل في حقيقته من الجديد إلا أقل من 20 في المئة ربما، وأن مدار الأمر كله قد أضحى حول القالب الجديد الذي يجري صب ذات المعلومات القديمة المكررة فيه، وكذلك حول فرادة أسلوب الكاتب وتميز طريقته في التعبير.

توقفت هذه الكتب منذ زمن ليس بالقصير عن إيصالي إلى حالة الانبهار، وصار من النادر أن ينتزع واحد منها إعجابي المطلق، خصوصاً إذا نحن أضفنا حقيقة أن أغلبها كتب مترجمة تعاني ركاكة الترجمة «الميكانيكية» التي دأبت دور النشر على استخدامها لتخفيض التكاليف، ولمجرد الزج العجول بهذه الكتب في السوق بحثاً عن الربح السهل والسريع، لكنني مع ذلك لم أتوقف عن قراءتها ولا حتى عن اقتنائها، وذلك لقناعتي بأن خروجي منها ولو بفكرة جوهرية تغييرية واحدة من بعد ألف صفحة وصفحة، يستحق كل العناء والتعب.

في هذا السياق، كان بيدي كتاب من هذه الكتب منذ أيام، ممتد على مساحة لا تقل عن 250 صفحة من القطع المتوسط. قرأتها جميعا فلم أخرج منها إلا بصفحات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أبرز ما أثارني منها قصة قرأتها كمن يقرؤها للمرة الأولى، فتأثرت بها وكأنها أصابت وتراً مشدوداً في داخلي، مستفزة مشاعري دونا عن سواها.

تقول القصة، والصياغة لي، بأنه أثناء خروج إحدى الكتائب العسكرية من أرض المعركة، اكتشف العسكر اختفاء أحدهم، فأصر زميل له على العودة بحثاً عن الجندي المفقود، وبالرغم من محاولة قائد الكتيبة ثنيه عن العودة بدعوى أنه قد مات حتما، وأنه لا داعي للمخاطرة بلا طائل، فإن الجندي أصر على موقفه والعودة بحثاً عن زميله، فاستجيب لطلبه. مرت ساعات طويلة عاد بعدها الجندي حاملاً جثة زميله المفقود على كتفيه، فما كان من القائد إلا أن قال له: ألم أخبرك بأنه قد مات، وإنه لم يكن هناك من داع لهذه المخاطرة أصلا، فأجابه الجندي: لا يا سيدي، فحين وصلت لم يكن قد مات بعد، بل كان في الرمق الأخير، فقال لي قبل أن يسلم روحه: لقد كنت واثقا بأنك ستعود لأجلي يا صديقي!

أخشى أن أكتب الآن ما قد يفسد أثر القصة، ولكن سأكتفي بالقول بأن استذكار المعنى الحقيقي للصداقة، والتشبث بمن حولنا من أصدقاء حقيقيين، يستحق دونه، بالنسبة لي على الأقل، قراءة آلاف الصفحات.