الأمر الذي يجب أن ندركه جيدا هو أن الكثير من الدول تدرك أنها لن تستطيع اختراق ديارنا الآمنة ومجتمعاتنا المرفهة إلا من خلال الثغرة الطائفية، وهي دول تملك النفس الطويل والخبرات الكافية لمتابعة العناصر المأزومة وتحريكها بين وقت وآخر حتى تتشبع الأرض بالكيروسين.

Ad

يعتقد الكثيرون منا أنهم يملكون المناعة الكافية التي يمكن أن تحميهم من التحول إلى أشخاص طائفيين، ولكن ما لا يدركه هؤلاء أن فيروس الطائفية قادر على إعادة ابتكار نفسه بين وقت وآخر حتى تأتي اللحظة التي تصبح فيها كل مضاداتنا الحيوية عديمة الجدوى، يستطيع أي واحد منا أن يستعرض أسماء أصدقاءه وأحبابه الذين يعتنقون مذهبا آخر، أو أن يستشهد بمواقف من ذاكرته تدل على تسامحه الشديد، أو أن يستعيد ما قرأه من كتب تدعو لنبذ الطائفية، ولكن هل كل ذلك يمكن أن يمنحه فعلا حصانة ضد الأمراض الطائفية التي قد تداهمه على حين غرة؟!

إن المسألة تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير؟ فالعواصف الطائفية التي أصبحت تهب علينا في كل الفصول بإمكانها أن تعصف بقناعات أكثر الناس انفتاحا، فيتحول إلى مجرد مسمار صغير في نعش التسامح، لذلك يحتاج الإنسان إلى تدريب نفسه بشكل دائم إلى تقبل فكرة أن هذا العالم يتسع للجميع، وأن انتماءه إلى أي فكرة يتحول إلى العدم حين تختفي الانتماءات الأخرى.

التعميم هو الطريق السريع نحو الطائفية، فحين يقوم شخص ما أو مجموعة من الأشخاص ينتمون إلى طائفة دينية معينة بالإساءة إلى مذهب آخر لا يصح أن نقول إن جميع أتباع هذا المذهب مشحونون بالكراهية، أو إن هذه المجموعة المتعصبة عبرت بصراحة عما تخفيه الأغلبية من أحقاد دفينة، التعميم هو كارثة الكوارث. فنحن نردد صباح مساء المثل الذي يقول إن أصابع الإنسان ليست سواء، ولكن ما إن يخرج شخص موتور من الضفة الأخرى ويرشقنا بسهامه الطائفية حتى نشحذ سكاكيننا لقطع جميع الأصابع صغيرها وكبيرها، ونحن نردد أغبى عبارة في هذا العالم: «كلهم مثل بعض».

كما أن حكاية احترام معتقدات الآخرين يمكن أن تتحول إلى مزحة ثقيلة الدم ما لم نقنع أنفسنا بأن الآخرين مثلنا تماماً من المستحيل أن يقتنعوا أنهم على خطأ... وإلا لما اختلفت قناعاتهم عن قناعتنا، وأن إيمانهم بمعتقدهم لا يلغي إيماننا بمعتقدنا، وأن ثمة الآلاف من تجار الطائفية يستمدون وجودهم وأهميتهم من نشر الكراهية وبث روح العداء، وهم يفعلون ذلك بسوء نية غالبا، وأحيانا بحسن نيه، وإن هؤلاء مهما بلغوا من الجهل والتعصب إلا أنهم يملكون قدرة عجيبة على اختطاف العقل في لحظة مظلمة، نعم نحن نسخر منهم في أوقات الرخاء ونتهكم على أطروحاتهم الجاهلية حين نجلس في المقهى، ولكن يجب عدم الاستهانة بقدراتهم في الأيام العاصفة، فأجهل جاهل فيهم قادر على تجنيد أعقل عاقل فينا في لمح البصر، فهم يملكون خبرات جيدة في الضغط على المناطق المؤلمة في الدماغ فيصرخ العقل فجأة: «لا أريد أن أفكر».

أما الأمر الذي يجب أن ندركه جيدا فهو أن الكثير من الدول التي لديها أطماع مكشوفة تدرك أنها لن تستطيع اختراق ديارنا الآمنة ومجتمعاتنا المرفهة إلا من خلال الثغرة الطائفية، وهي دول تملك النفس الطويل والخبرات الكافية لمتابعة العناصر المأزومة وتحريكها بين وقت وآخر حتى تتشبع الأرض بالكيروسين، وحينها لن تحتاج إلى أكثر من شرارة صغيرة... مجرد شرارة تافهة كي يشتعل الحريق الكبير، وحين يشتعل الحريق الكبير سوف نكون طائفيين رغما عن أنوفنا... لأننا لا نملك خياراً آخر.

* كاتب سعودي