لم تعد الأوراق اليوم مختلطة فقط، بل اختلطت معها الموضوعات، واختلطت معها الرموز والشخصيات، واختلطت معها المبادئ، واختلطت معها التيارات والقوى السياسية، واختلطت معها الأجندات والنوايا، وأخيراً اختلطت معها فئات الشعب وسط انقسامات مذهبية وعرقية، طوعت المواقف السياسية وعصرتها، وهي في الطريق إلى نسفها.

Ad

المشهد السياسي الذي يتجلى أمام أعيننا يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، لا يحمل صور الحزن والكآبة والخوف من خطورة تداعيات فصوله القادمة، إنما بات يعصف بأي محاولات أو سماع للتفكير العقلاني أو الرأي والموقف الموضوعي.

وشئنا أم أبينا فإن ساحتنا أصبحت ممزقة بشكل شبه كامل، النفوس تعبأت تماماً تقريباً، ومن لا يفصح عن مكنوناته فإنه بلا شك يضمرها في داخله، أما البقية الباقية من الناس الذين يتجرعون مرارة الألم بسريرة نقية وقلوب صادقة ضد حالة الكراهية العامة فإن ميدانهم الأول الذي يجب أن يحاربوا فيه هو أهلهم وأقرباؤهم وعشيرتهم، فصوت العقل وقول الحق أصبح جريمة في مقابل الفزعة والتشفي والشماتة!

وهذا المنظر القبيح ليس من نتائج الأحداث الأخيرة أو بسبب استجواب رئيس الحكومة، وإن انعكست مؤشراته بشكل غير مسبوق، ولكنه ثمرة التعبئة المنظمة للمواطنين وتغذية روح الطائفية والقبلية والفئوية فيهم على مدى عدة سنوات، وهناك وكما قلت في عدة مقالات سابقة، دراسات علمية قامت بها بعض الهيئات الحكومية وأظهرت نتائجها قبل أكثر من سنة، تحمل دلالات خطيرة للغاية، ومؤشراتها الرقمية تدعو إلى القلق الكبير، ومع ذلك لم تفصح عنها الحكومة أو تنشرها لدق ناقوس الخطر فيها بالدرجة الأولى ووضع السبل الكفيلة بمعالجتها.

وبسبب هذه الاحتقانات الحادة واستمرار حالة التصعيد والعناد من كل الأطراف دخلنا مرحلة جديدة من الخلاف، وهو الخلاف على كل شيء، فاليوم خلافنا صار على الدستور نفسه وعلى حرية الرأي والثوابت الوطنية، وعلى أصل الانتماء والولاء، وانتقل هذا الخلاف إلى الشارع، ودخل إلى كل بيت من خلال المحطات التلفزيونية واختلط الحابل بالنابل.

في السابق، ومنذ بداية العهد الدستوري كانت معظم الخلافات سياسية، وكانت هناك مجموعات موالية للحكومة معروفة بخطها السياسي ومصالحها التجارية، وفي المقابل كانت هناك المعارضة برموزها وشخصياتها وتياراتها الشعبية، وكان القطاع الأكبر من الناس يميل إلى جانب المعارضة لمصداقيتها وثبات شعاراتها ومبادئها، وبمعنى آخر فالأوراق كانت مكشوفة وفرزها لا يحتاج إلى كثير من العناء.

أما اليوم فلم تعد فقط الأوراق مختلطة، بل اختلطت معها الموضوعات، واختلطت معها الرموز والشخصيات، واختلطت معها المبادئ، واختلطت معها التيارات والقوى السياسية، واختلطت معها الأجندات والنوايا، وأخيراً اختلطت معها فئات الشعب وسط انقسامات مذهبية وعرقية، طوعت المواقف السياسية وعصرتها، وهي في الطريق إلى نسفها.

وأهم ما نحتاج إليه اليوم هو بروز صوت ثالث حضري قبلي سني شيعي يحكمه العقل، وتنفخ فيه روح الوطنية، ويستمد قوته ليس بالصراخ أو التأجيج العاطفي إنما بقوة الطرح وجرأة الموقف، وصوت يسجل للتاريخ مبادئ جديدة بعيداً أيضاً عن الميوعة والانبطاح، فهل من مجيب؟!

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة