تؤكد تجارب الشعوب العربية كافة مع ثوراتها بدءاً بخمسينيات القرن الماضي أنها كانت وبالاً على مجتمعاتها، ومصدر بؤس لها، ودماراً لاقتصاداتها، وتخريباً لروحها، وتشويهاً لنفسياتها، بل كانت وأداً للديمقراطيات الوليدة من العهود الملكية شبه الليبرالية، أفرزت هذه الثورات أنظمة تسلطية قمعية وأشاعت الخوف والرعب في نفوس مواطنيها، وتفننت في تعذيب المعارضين بحجة أنهم أعداء الثورة، وصادرت الأموال والممتلكات بحجة أنهم إقطاعيون رجعيون من العهد البائد، وعدت الثورات العربية شعوبها بالعدالة الاجتماعية والوحدة والحرية وتحرير فلسطين، وغذتهم بشعارات وطنية «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار»، لكنها داست كراماتهم وسلطت عليهم زوار الفجر وما أدراك ما زوار الفجر؟!
آلاف ذهبوا وراء الشمس، إذ شكلت الثورات العربية معوقاً للتقدم ومعطلاً للتنمية عبر استنزاف الموارد والطاقات وتبديدها في مشروعات فاشلة، فاستولى الثوار على خزائن عامرة وسلموها خاوية مدينة بأرقام فلكية، وتسلموا قيادات شعوب حرة وطاقات واعدة ومجتمعات زاخرة بالحياة والثقافة والفن والإبداع فجعلوها خراباً يباباً! لم يكونوا أهلاً للأمانة ولا نداً للمسؤولية، تغول الفساد وتحكم الاستبداد وشردت الكفاءات وديست القيم والأخلاقيات وامتهنت الكرامات. كما أن الأنظمة كافة التي أنتجتها هذه الثورات تحولت إلى نظام الحزب الواحد المهيمن على الحياة السياسية والبرلمانية، وإلى استحواذ الرئيس وعائلته وأبنائه وحاشيته على الثروة والسلطة معاً، وعلى الرغم من أن الدساتير الموضوعة من قبل هذه الأنظمة حددت فترة الرئاسة ونصت على تداول السلطة وإجراء انتخابات دورية، فإن الوقائع السياسية عبر 60 عاماً تثبت بجلاء أن الرئيس فور وصوله إلى السلطة يكون همه الأول كيف يبقى في السلطة إلى أن يموت، وهمه الثاني كيف يورثها ابنه! فيعمد إلى تعديل الدستور، إذ يجد آذاناً صاغية وألسنة مؤيدة عبر مجالس نيابية يهمن عليها الحزب الحاكم، فيتم التعديل طبقاً لأهوائهم ويتم تزوير الانتخابات تبعاً لمصالح الموالين والمنتفعين والمقربين. لم تحقق الثورات العربية وعداً واحداً قطعته للجماهير، فالديمقراطية أجهضت ليحل القمع والقهر، والعدالة الاجتماعية تحولت إلى ظلم اجتماعي عريض واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء حتى أن مصطفى الفقي ذكر أنه تم إنفاق ما يقرب من 15 مليون جنيه على حفل زفاف بينما العشوائيات تنهش كبد المجتمع المصري، أما الوحدة العربية فانقلبت قطيعة عربية، وخلّفت كراهيات معمقة، وأما تحرير فلسطين فقد أصبح انقساماً فلسطينياً مأزوماً! تبخرت شعارات الثورات العربية وأصبحت أوهاماً، في مصر قامت حركة «الضباط الأحرار» التي وصفت بالمباركة بحركتها، ثم تحولت إلى ثورة لكنها كانت مشحونة بكم هائل من الكراهية والعداء ضد رجال العهد البائد ومؤسساته، فحلت الأحزاب ماعدا «جماعة الإخوان»، وألغت الدستور، وفككت المؤسسات، وغيرت العلم والنشيد، واستبدت بالأمر، فأهدرت الحريات وصادرت الممتلكات وانشغلت بملاحقة رموز العهد السابق وتصفيتهم، فدخلت في نفق مظلم طويل مارست فيه أبشع صور التعذيب ضد المعارضين، خصوصاً الشيوعيين و»الإخوان»، وظهر صلاح نصر مفاخراً بكتابه الضخم «الحرب النفسية»، وفيه ما فاق أساليب «الجستابو» في القمع والاضطهاد! وأعلنت الثورة مبادئها الستة التي لم تحقق منها غير تدمير الروح المصرية وإفساد النفسيات وتخريبها، فكانت الهزيمة المدوية للنظام ليأتي السادات ويرد الاعتبار بنصر أكتوبر 73، ثم يأتي مبارك بعده ليعمر طويلاً في السلطة فيحيط به المحاسيب والمتمصلحون الذين يحتكرون السلطة والثروة، ويعيثون فساداً، ويزورون الانتخابات، ويسدون أبواب الأمل في التغيير والإصلاح، فلا يجد الشعب خياراً إلا الثورة لإسقاط النظام. أما ثورتا سورية والعراق فقد نكبتا بسلسلة من الانقلابات الدموية ليستقر الأمر في النهاية لـ»حزب البعث» بجناحيه السوري والعراقي اللذين سرعان ما تعاديا، ثم كان من أمرهما ما هو موثق في سجلات حقوق الإنسان، وما نكبتا حماة وحلبجة عنا ببعيد! ألوف اختفت ودفنت في مقابر جماعية، وثورة العراق أبدعت في فن سحل المعارضين والتهجير الجماعي والقصف الكيماوي، لكن ربك كان بالمرصاد فسلط على النظام سوط عذاب فاجتث البعث من صياصيه وطارد رموزه وفك مؤسساته. أما ثورة الفاتح من سبتمبر 69 على يد الأخ القائد الذي جعله عبدالناصر أميناً للأمة، فلم يكن أهلاً لها، إذ بدد ثروات ليبيا على 30 منظمة إرهابية، وعلى تدبير مؤامرات لقتل ملوك ورؤساء، وزعزعة أنظمة عربية، ومطاردة المعارضين في الخارج وتصفيتهم، حتى أن رفاقه لم يأمنوا شره، وأهدر المليارات على ترويج كتاب زعم أنه حوى ما لم تتوصل إليه البشرية من نظام ديمقراطي مثالي- اللجان والمؤتمرات الشعبية- وطبقه على شعبه 40 عاماً، فأذاقهم من البؤس وألوان العذاب ما لا يوصف، لكن هذا الشعب الأبي الذي صبر طويلاً على ترهات الكتاب الأغبر وتخاريف صاحبه ها هو اليوم ينتفض في مواجهة آلة القتل والقصف والترهيب، والمسؤولية الأخلاقية والإنسانية تحتم على المجتمع الدولي وعلى العرب والمسلمين المسارعة لحماية الشعب الليبي من ضراوة حاكمه الذي جنّد المرتزقة لقصف المدنيين بالطائرات، وهو لن يتورع عن استخدام الغاز السام وإحراق مستودعات النفط في سبيل بقائه. ومن هنا على شرفاء العالم تحطيم هذا النظام الخارج على الأعراف الدولية لأن استمراره يعد وصمة عار في القرن الـ21... أما ثورة المليون شهيد والثورة اليمنية فالاضطرابات تهزهما، وبعد 50 سنة لم يحقق ثوار الجزائر واليمن وضعاً أفضل لشعوبهم. 60 سنة مرت في حياة الشعوب العربية في ظل الثورات العربية، وكانت- قبلها- تعيش حياة كريمة، وتنعم بحريات واسعة، وكان الفن والفكر والثقافة والصحافة مزدهرة، وكان التعليم متقدماً، وكانت الملكيات الحاكمة تسمح بأجواء ليبيرالية وتسامح، وهي، وإن أساءت وظلمت وأفسدت، فإنها كانت أكثر رحمة وإنسانية في تعاملها مع المعارضة السياسية إلى أن جاءت الثورات العربية لتقوض هذه الملكيات بحجة أنها خانت القضية الفلسطينية بعد نكبة 1948 وسط تهليل الجماهير، ولكن ماذا كانت النتيجة كما تساءل محمد جابر الأنصاري؟! 60 سنة ضاعت من أجل لا شيء، نهضت خلالها دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا من الأنقاض! هذا الانسداد التام أمام أي فرصة للتغير والإصلاح وطغيان الفساد ونهب المال العام لم يترك أمام الشعوب- خصوصاً الشباب- غير خيار الثورة والمطالبة بإسقاط النظام. فالثورات الجديدة، ثورات على الثورات القديمة بهدف تحرير الإنسان العربي من قيود القمع والقهر والخوف سعياً إلى اللحاق بركب الدول المتقدمة، إذ لا تشكيك في صدق الثوريين الجدد وإخلاصهم وعدالة مطالبهم إلا أن هناك مخاوف ومحاذير حقيقية ومشروعة من أن تنحرف الثورات عن أهدافها وتوجهاتها السليمة، لذلك ينبغي على شباب الثورات أن يفتحوا قلوبهم لوجهات النظر المخالفة لهم، وذلك من منطلق الحرص والخشية عليهم، وعلى ثوراتهم من منزلقات المتملقين والمتسلقين، وهم كثر في هذه الأيام. ولعل من أبرز هذه المخاوف: شيوع الروح الانتقامية ضد الرموز والشخصيات كافة التي ساهمت وتعاونت مع النظام السابق! وإلا فما معنى وضع «قوائم سوداء» تضم فنانين ومثقفين وصحافيين ورياضيين وسياسيين؟ هذه الروح الانتقامية الإقصائية لا تخدم أهداف البناء والتنمية والإصلاح إنما تخدم الهدم، وهي نفس الروح الانتقامية التي استحوذت على الثورات العربية السابقة، وأضلت شعوبها وقادتهم إلى مهاوي الهلاك. ويجب على الثوار الجدد الانشغال بوضع خارطة طريق للبناء لا خارطة طريق لتصفية الحسابات مع رموز النظام السابق ومؤسساته، لا ينبغي على الثوار الجدد تكرار نفس الأخطاء والخطايا السابقة، وتضييع 50 سنة أخرى في استنساخ تجارب فاشلة، لا وقت لدينا... فعلينا تفجير طاقات الشعب وإطلاق قدراته للبناء والتنمية واللحاق بركب التقدم. وثاني هذه المخاوف: الحذر كل الحذر من الزعيم «الشعبوي» الذي يقول إنه يستمد شرعيته من الشارع، فهذا هو الأخطر من الزعيم الذي يستمد شرعيته من مرجع ديني أو عسكري أو قبلي! لذلك كان سلوكاً منتقداً لرئيس الوزراء المكلف من المجلس العسكري مسارعته إلى ميدان التحرير ليقول لهم: أستمد شرعيتي منكم! هذا السلوك المتملق يعبر عن نوايا غير مطمئنة على مستقبل الثورة الجديدة، فمن يدّع أن شرعيته مستمدة من «ميدان التحرير» اليوم، فإنه سيدوس غداً، وباسم هذه الشرعية، على مؤسسات الدستورية ويتجاوزها، وسيكون فرعونا أعظم من سابقيه، الزعيم الشعبوي يحسن تملق الجماهير والتلاعب بعواطفها، لكنه سيكون جباراً في الأرض يقصي المعارضين، وهذا هو الخطر الأكبر على مستقبل الشعوب الصانعة للتغير، والإعلام القومي في مصر ينتظر فرعوناً جديداً ليمجده! الشرعية لا تستمد إلا عبر قنوات شرعية وانتخابات نزيهة تتوافر فيها مقومات تكافؤ الفرص، الشارع يظل شارعاً وليس مصدراً للشرعية كما يقول عادل الطريفي ويضيف: إن اللجوء إلى مباركة الشارع يعني التسليم إلى سلطة «مستبدة» لا تقل من الناحية الأخلاقية خطراً عن نظام شمولي. * كاتب قطري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
في أن الثورات العربية لم تأت بخير
14-03-2011