زويل والبقية المهاجرة
بعد نجاح الثورة المصرية لنا أن نتساءل الآن، كيف يكون المشهد الثقافي في مصر في المرحلة المقبلة، وهي مرحلة مختلفة بالتأكيد عن سابقتها على كل الصعد. سؤال الثقافة هنا يجرّ معه أسئلة أخرى تصب في الإطار ذاته تتعلق بالبحث العلمي، ووضع الجامعات، ومراكز البحوث والدراسات الأكاديمية، وكذلك العقول العربية المهاجرة. ينتمي الشق الثاني من هذا السؤال إلى عالم قائم على المفهوم المؤسسي للمعرفة، بمعنى أن البحث والابتكار هنا يأتي تحت يافطة مؤسسية لها تقاليدها، وأعرافها، وشروطها من حيث الترقي والبلوغ إلى الدرجات العليا، وهو أمر مختلف عن الثقافة في مفهومها الآخر، الأكثر ميلاً إلى الإبداع بصورة فردية متحررة من قيود المؤسسة، ومعتمدة على المبادرة الذاتية الخالصة.
على أي حال تحتاج مصر، ومعها بقية الأقطار العربية، الثائرة منها أو التي في طريقها إلى الثورة، إلى إعادة النظر مرة أخرى في ما يتعلق بالميزانيات المخصصة للبحث العلمي، ولأساتذة الجامعات والباحثين المبدعين، إذ من غير المعقول أن يعامل عالم كيميائي أو في مجال الهندسة أو حتى في الفلسفة والدراسات الاستراتيجية مثل موظف من الدرجة الثانية في أي قطاع حكومي، ومع احترامنا لكل القطاعات فإن العلماء بحاجة إلى توفير بيئة بحثية وعلمية سليمة بما يشمل التطوّر العلمي، والتقني للمجتمعات العربية، وبما يحد بالطبع من أعداد العقول العربية المهاجرة إلى الغرب، وهي شكوى تحدّث عنها كثير من الكتاب والباحثين على مدى سنوات متتابعة، وليس من مجيب، ولعل ذلك عائد إلى أن الأنظمة العربية مشغولة بإرساء دعائم حكامها، ومجاملة التجار والطبقات العليا من مسؤولي الدولة، الأمر الذي ينطبق كاملاً على الحالة المصرية.أذكر في هذا الصدد مقالاً قرأته للكاتب السعودي عبدالله الجعيثن يذكر فيه أن شركة «باير» الألمانية على سبيل المثال، «فرغت عالماً مدة ثلاثين سنة تنفق عليه ليل نهار وتكفيه كل شؤون الحياة وترعى أسرته وأولاده لينكب على بحوثه حتى اخترع دواء «الأسبرين» بعد ثلاثين عاماً من البحث المتواصل، فعاد على الشركة وعلى الاقتصاد الألماني في بيع يوم واحد بأضعاف ما أنفقته الشركة عليه في ثلاثين عاماً». لعل الطريف في الأمر أن ثلاثين عاماً قضاها ذلك العالم في البحث العلمي فأنتج دواء الأسبرين هي الأعوام ذاتها التي قضاها حسني مبارك في سدّة الحكم، ولا من عالم أو اختراع مصري بحجم اختراع الأسبرين، بل إن النموذج واضح أمامنا في العالم أحمد زويل، ورفيقيه فاروق الباز وطبيب القلب مجدي يعقوب، وآخرين كثر مازالت تستفيد منهم الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الغربية. صرّح زويل ذات لقاء، وفي قمة الأحداث الجارية بأنه لم يكن ليبتعد عن مصر لو أتيحت له الفرصة المناسبة، وهو على أتم الاستعداد لخدمة وطنه من أي جانب.إذن مصر ولادة كما يقول الإخوة المصريون، ومعها سورية، ولبنان، وتونس، والجزائر، والعراق، والسودان، هذه الأقطار جميعها مثخنة بالعقول العربية المهاجرة، فمتى يعودون إلى أوطانهم. لنا أمل كبير في العهد الجديد القادم في هذه الأقطار.أما بالنسبة إلى الثقافة في مفهومها الإبداعي الخالص فليست بحاجة إلى أكثر من تهيئة الأجواء المناسبة للمبدعين خصوصاً لما يتعلق من ناحية الحرية في إطلاق الذهن، إذ ليس من المعقول أن تُقرأ النصوص الإبداعية في المرحلة المقبلة بأعين بوليسية تفتش بين أسطرها، عن هذا الوزير أو ذاك، أو تلك الإدارة الحكومية، أو الشخصية السياسية، لقد انتهى ذلك العهد، ومعه يجب أن تنتهي القوانين المقيدة لحرية الإبداع، حتى يشعر الكتاب بحرية أكبر، فهم ليسوا مضطرين إلى وضع سلاسل غليظة حول أذهانهم، حتى من قبل أن تقدح شرارة الفكرة لديهم.