ظهر الفنانون الثلاثة في الفرقة الفرنسية على خشبة مسرح عبدالعزيز حسين لأداء فقراتهم الموسيقية ضمن فعاليات مهرجان القرين الحالي. ولكن قبل أن تبدأ الفرقة بالعزف، تململ عازف الكلارينيت من قسوة الإضاءة الموجهة إلى عينيه من كشّاف معلق على حائط جانبي طالباً خفض الإضاءة الباهرة! ثم ثنّى على هذا الاحتجاج بطلبه - بكل ما يملك من لباقة ممكنة - من جمهرة المصورين أن يغادروا المسرح، فالربكة التي يحدثونها لا تُحتمل!
ضحكتُ في سري، فمثل هذه الملاحظات البديهية طالما كانت مصدر إزعاج ونفور لرواد الفعاليات التي تقام باسم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وطالما تململ الجمهور مما يفسد عليه متعته من سوء في توزيع الإضاءة (التي غالباً ما تُركّز على الحضور بدلاً من خشبة المسرح!)، أو من سوء التهوية أو من شدة تبريد المكيفات في الصالة. أما مشكلة المصورين وكاميراتهم فيبدو أنها طامة لا حل لها! إذ ما إن يُعلن تكريمُ أحد أو تسليم درع أو إلقاء كلمة، حتى يشكل المصورون حائطاً منيعاً بين خشبة المسرح والجمهور، الأمر الذي يمنع إمكانية مشاهدة اللحظات الثمينة حتى لجمهور الصف الأول من كبار الضيوف وعلية القوم، الذين لا يعاينون من المشهد غير انعدام اللباقة وقلة الذوق! أما سر الضحك الخفي لديّ (وهو ضحك كالبُكا)، فلم يكن بسبب بداهة الاستنكار الصادر عن العازف الفرنسي أمام انعدام آداب المسرح وتقاليده لدينا، وإنما السبب يعود إلى التساؤل عن مدى حاجتنا إلى هذا اللون من التأنيب حتى ننتبه إلى ما نعانيه من أمية وتخلّف في كل ما يخص احترام تقاليد المسرح وأعرافه. وأعتقد أن قليلاً من الجهد في توفير فنيي إضاءة حقيقيين (وليسوا عمالاً مهمتهم شِبْ وطَفْ) ، وتوفير اختصاصيي متابعة فنية لمرافق المسارح والصالات، قد يُحدث فرقاً جوهرياً في أجواء الفعاليات والأنشطة ويدعم رسالتها الثقافية وخصوصيتها الفنية. ولعل أمر هذه الأمية لا يخص تجهيز المسرح بما يساعد على أداء رسالته فقط، وإنما يمتد ذلك إلى السلوكيات الأخرى غير الحضارية التي تصدر عن الحضور، كالكلام واللغو أثناء العرض، ورنين الهواتف النقالة، واصطحاب الأطفال لعروض الكبار، والتأخر في الحضور وما يحدثه من ربكة للجالسين، إلى غير ذلك من سلوكيات مستفحلة غدت من علاماتنا الفارقة. و لعل سياق الموضوع يسمح لنا ببعض الاستطراد في التحدث عن هموم وشجون مؤسساتنا الثقافية وبسط الاقتراحات التي يمكن أن تفعّل دورها بشكل أفضل. من ضمن هذه المؤسسات الثقافية متحف الفن الحديث وصالة الفنون أو صالة أحمد العدواني في منطقة الضاحية، وقد أتيحت لي فرصة زيارة كلا المعلمين أكثر من مرة خارج أوقات مواسم القرين الثقافية. وقد أحزنني الفراغ والهجران اللذان يرينان على أجوائهما طوال العام، إذ نادراً ما يفكر الناس في غشيان هذه الأمكنة والتحاور مع اللوحات والمنحوتات والأعمال الفنية الأخرى، فتظل نائمة في الفراغ والصمت في انتظار أن تأتي مناسبة سنوية يتيمة لتزيل عنها غبار الإهمال واللامبالاة. إن فكرة إيداع الأعمال الفنية في متحف قد تناسب العواصم الكبرى كباريس ولندن وواشنطن وغيرها من المدن الحية التي يتحول فيها المتحف إلى خلية نحل يغشاها السائحون والمهتمون كل يوم وساعة. أما بالنسبة لأوضاعنا المحلية وظروفنا المعيشية فأعتقد أن المقتنيات الفنية يجب أن تذهب إلى الناس في أماكن وجودهم وتجمعاتهم وليس العكس. في العام الماضي افتتح معرض (أم كلثوم) الذي ضم تراثها ومقتنياتها في أحدث مول تجاري وهو مول 360. وقد نجح هذا المعرض نجاحاً باهراً في استقطاب الجمهور وغالبيتهم من المترددين على المول للتسوق والتنزه. والمثال الآخر للتلامس مع الناس يتمثل في إبراز إحدى منحوتات سامي محمد عند مدخل مركز عبدالعزيز حسين الثقافي الملحق بالمركز التجاري في منطقة مشرف، وهو المكان الأقرب للناس والألصق بنشاطاتهم اليومية. وقياساً على هذا نتطلع أن نرى منحوتة (الشلل والمقاومة) أو (مجموعة صناديق) في ساحة الأفنيوز، ولوحات خليفة القطان وسوزان بوشناق وثريا البقصمي في أروقة سوق شرق والمارينا مول، وإبداعات الأجيال الشابة من مشغولات وتصوير ورسم في الفنار ومول 360 وفي كل موقع ووزارة ومؤسسة يغشاها الناس ويترددون عليها. الأعمال الفنية ثمرة الوجدان ونبض القلب، لذلك فإنها لا تفوح بعطرها وأسرارها إلا إذا آنست القرب والدفء الإنسانيين. ليتنا نحقق لها ولنا تلك الأمنية.
توابل - ثقافات
اسمحوا لي
18-01-2011