طيف اورسولا 1
كان مينار ثملاً تقريباً. عيناه ثقيلتان وفي رأسه تجول غيمة سوداء عندما قرر أن ينهض فجأة مُغيراً في الخطة التي وضعها لنفسه لكي يفاجئ أورسولا في الطريق أو في الحانة أو في أي مكان عام، ظاناً أن المفاجأة هنا ستترك انطباعاً أشبه بانفجار مجراتٍ صغيرة فوق رأسيهما. وبدلا من ذلك، قرر مينار، اللحظة فقط، أن يحاول طَرق بابها، وفق آخر عنوان في الرسائل القديمة التي أرسلتها اليه. والرسالة الأخيرة لاتزال في حقيبته في الفندق.
- يا لهذه الفكرة الحمقاء! تمتم مينار في سرّهِ، أجل لقد قرر الآن أن ينفذ فكرة لم تكن تُثيرهُ أبداً. إذ ما الذي سيحدث لو وجدها فعلاً. وحيدة حتى أو ربما مع رجل آخر. لم يكن مينار، متأكداً من شعورهِ ولا طريقة تصرف لائقة حيال موقف كهذا. قفز من كرسيه مثل عاصفة هوجاء وقرر ان يذهب إلى الفندق أولاً:- أَكُلُّ هذا بسبب نغمة تشارلي باركر التي أتت من بعيد وأشعلت روحه؟عندما خرج من الفندق والرسالة مطوية جيداً في جيبه، أدرك أن الليل بدأ يغزو المدينة على مهل، خفيفاً، بارداً، مسالماً، إلى حدٍ بعيد. أحس بارتياح مفاجئ واطمئنان غريب. بدأ يسير كما لو انه في حلم.- فالحياة بعد كل شيء أرجوحة قابلة للسقوط في أي لحظة.فكر مينار. كانت المدينة بأضوائها اللاهبة وضجيجها، تدفعه إلى تنفيذ اللعبة بقوة وبهجة غامرتين. وقف مينار في الشارع الرئيس، وأشار إلى أول سيارة أجرة:- إلى شارع المطار الرقم 8.ابتسم السائق ابتسامة خفيفة ماكرة، فأحس مينار بالامتعاض. كانت السيارة تجتاز الآن البنايات، والحدائق، والتلال الخضراء. كانت الطريق سيئة للغاية والسائق يبدو سعيداً على نحو غريب. أحس مينار بالاضطراب قليلاً وبدأ يعرق. كان التوتر يمنع ملاطفة روحه النائمة في ليل طويل. أراد أن يتراجع: «هل هو الخوف؟».مرت حياته أمامه مثل شريط سينمائي. هكذا سريعاً، ومضات خافتة. أحس كأنه بعد قليل سيجتاز عتبة عمره كلهّا. فكّر باللوحة المعلقة في غرفته هناك في الشمال البعيد، تحت تلك السماء الرصاصية. اللوحة التي رسمها بنفسه، ذات ليلة شتوية بعيدة، وكانت أورسولا أمامه عارية. جسد باهر خالص الوفرة، وخيط من الدم يمتد شفافاً بين نهديها. لم تكن أورسولا تتألم، كانت عيناها الكبيرتان تنظران اليه بشبقٍ مكشوف تحت أضواء كتيمة:- هل كانت أورسولا عاهرة صغيرة يا مينار؟ حسناً اللوحة لاتزال هناك معلقة في غرفته، يظهر فيها الجرح، فاتناً، متلألئاً، شديد الغواية والإغراء. توقفت السيارة عند المدخل ونزل مينار بعد أن أعطى السائق أجرته. تأكد من رقم المنزل وخطا إلى الداخل، إلى الباحة الواسعة، عبر بوابة مفتوحة. كان المنزل قديماً، ومتآكلاً في قلب حقل شاسع، وكانت أشجار الكالبتوس الكثيفة، المحيطة بالمنزل تُضفي عليه مسحة من الكآبة وثقل الظل. من نافذة في الأعلى يبين ضوء خافت، كما لو أنه ضوء شمعة. صعد مينار سلّماً خفيضاً بحذر شديد، مُتحسساً الجدران الخارجية المتآكلة، بفعل الرطوبة ربما وفي يده عود ثقاب مشتعل. هناك وقف أمام باب بلون أخضر غامق. تنفس قليلاً ثم ضغط بإصبعه على الجرس. ظلّ واقفاً منتظراً أن يُفتح الباب. مرت لحظات ولم يسمع شيئاً. لا حركة، ولا صوت، لا موسيقى أيضاً. تيقن مينار أنه أخطأ، وأن خطوته هذه ليست سوى خطوة في فراغ هائل ومظلم، شَعَرَ مينار بأنه متعب وثمل وأحمق إذ لا حياة في هذا المنزل الغريب، بين هذه الأشجار الضخمة. كان على وشك النزول عندما سمع خطوات متثاقلة قادمة من بعيد، بعد لحظات فتح الباب:- نعم. كانت النعم هذه خافتة، شريرة كأنها قادمة من الطرف الآخر للكون.لمح مينار وجه امرأةٍ عجوز، وغريب في نفس الوقت، لأنه في اللحظة التي أراد فيها أن يتفوه بشيء ذي معنى كان الوجهُ كلهُ قد تحّول إلى ابتسامة خرقاء:- أليس هذا منزل السيدة أورسولا؟- بلى. أيها السيد، انه منزلها، إنها نائمة، لكن، اسمع أيها السيد، يمكنك الدخول، وسأُوقظها. صمتت فجأة، ثم أضافت:- كأنك قادم من بلد بعيد أيها السيد.● مقطع من عمل سردي طويل