عندما يحتفظ «التجمع الديمقراطي» التونسي, الذي هو امتداد للحزب الحر الدستوري الذي قاد تونس إلى الاستقلال, بموقع رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وبكل الوزارات السيادية, الخارجية والمالية والدفاع والداخلية, وعندما لم يشارك في حكومة الوحدة الوطنية التي شكلها محمد الغنوشي, وليس راشد الغنوشي, إلا ثلاثة أحزاب معارضة بثلاث وزارات هامشية, فإن هذا يعني أن الذين لايزالون «يرقصون في العِتْمة» ركوباً لموجة الانتفاضة الشعبية التونسية لا يعرفون الحقائق وأنهم بقوا «يغمّسون خارج الصحن» في تحليلاتهم وتنظيراتهم المبنية على الأوهام والبعيدة عن الحقائق بعد الكويت عن تونس.

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وعلى وجه التحديد في عام 1984، ولأن الحبيب بورقيبة (المجاهد الأكبر) بسبب كبر سنه وبسبب هيمنة بطانته عليه غدا عبئاً على البلاد والعباد فقد بادر الذين أرادوا انتشال الحزب الدستوري الحاكم من المستنقع الذي أخذ يغرق فيه والذين خافوا من أن يفلت الحكم من أيديهم ومن يد هذا الحزب وعلى رأس هؤلاء زين العابدين بن علي مدير الأمن العام السابق ووزير الداخلية ,الذي أصبح بالِغ القوة وواسِع النفوذ, إلى افتعال أزمة الخبز الشهيرة فحدثت تلك الانتفاضة التي كانت أهم من هذه الانتفاضة الأخيرة والتي بقي الذين افتعلوها يراقبونها عن كثب وبحيث عندما حانت اللحظة التي أرادوها انقضوا عليها بكل شراسة وقوة وأنهوها بقسوة جعلت بن علي يبرز كرقم رئيسي في المعادلة السياسية في تلك المرحلة.

Ad

لقد أصبح زين العابدين بن علي, هذا الذي احتل مكان عيدي أمين دادا كلاجئ سياسي في جدة في المملكة العربية السعودية, في نظر الشعب التونسي المخلص الأكبر ولقد أصبح أيضاً الذراع الأيمن لـ»المجاهد الأكبر»، وهكذا فقد بادر إلى تنظيف كل العوائق من أمامه فأزاح محمد مزالي من رئاسة الحكومة وجلس مكانه، ثم أزاح الحبيب بورقيبة من قصر قرطاج وجعله قصره، ثم ولأنه استعان ببطانة معظمها فاسد ولأنه ضرب بكل ما كان تعهد به عرض الحائط وتحول إلى «ديكتاتور» بملمس خارجي ناعم، وأوصل هذا البلد الجميل إلى ما وصل إليه، كانت النتيجة أن أوصل نفسه إلى هذا المنفى الإجباري.

لم تعد الأوضاع تُحْتمل وكان لابد من التخلص من بن علي, بعد أن أصبح هو وبطانته وحكمه عبئاً على البلاد, وكان لابد من أن يحتفظ «التجمع الدستوري الديمقراطي» بالحكم الذي بقي يحتفظ به, رغم كل التغييرات والانقلابات السياسية الناعمة, كل هذه الفترة الطويلة منذ الاستقلال، ولذلك فإن هؤلاء الذين أصبحوا في واجهة المرحلة الجديدة ومعهم بالتأكيد أولئك الذين يحركون الأمور ويسيطرون على كل التوجهات من وراء الستارة, قد تركوا هذه الانتفاضة الأخيرة, التي جاءت عفوية وبدون أي مساهمة فاعلة من أي حزب سياسي حتى «حزب النهضة» الذي يقوده راشد الغنوشي الذي هو قد أكد هذه الحقيقة بعظمة لسانه, إلى أن أخذت أبعادها فتحركوا في اللحظة المناسبة ليضربوا ضربتهم بإقصاء زين العابدين بن علي في هيئة انقلاب عسكري غير معلن، ثم رحّلوه عنوة إلى حيث يعيش الآن لاجئاً سياسياً في جدة، وبهذا فقد ثبّتوا سلطة حزبهم وجددوا شبابه. والمؤكد أن الأمور ستسير على هذا النحو حتى بعد الانتخابات المنتظرة رغم مشاغبات بعض القوى الهامشية التي ستبقى هامشية.

ولعل ما يَغْفُلُ أو يتَغافلُ عنه, الذين يستقتلون عن بعد من خلال الفتاوى السياسية والتحليلات التي دافعها رغبات جامحة إلى تحويل ما جرى في تونس من اتجاهه الفعلي والحقيقي إلى الاتجاه الذين يريدونه, هو أن الكثير من الأحزاب والجماعات التي حكمت في بلدان عربية أخرى قد انقلبت على نفسها أكثر من مرة. وهذا قد حصل عندما انقلب جمال عبدالناصر على محمد نجيب، وعندما شهدت مسيرة البعث في سورية حركة الثالث والعشرين من شباط عام 1966، والحركة التصحيحية عام 1970، وعندما شهدت مسيرته في العراق انقلاب صدام حسين على أحمد حسن البكر وانقلابه لاحقاً على رفاقه في عام 1979،  وعندما انقلب الرئيس الجزائري هواري بومدين على رفيق دربه أحمد بن بللا، وعندما شهدت تجربة حكم اليساريين في الجنوب اليمني سلسلة التصفيات التي شهدتها إلى أن انتهى الوضع إلى ما انتهى إليه بالخلاص من تلك التجربة البائسة إلى الهروب إلى وحدة عام 1990 مع الشطر الشمالي، وهي الوحدة المستهدفة الآن من قبل الذين التجأوا إليها هروباً من مسيرتهم الحزبية الدامية.