منذ فترة وأنا جالس مع أبنائي، دار حديث حول ما يتمناه كل واحد منهم في حياته، فذهبوا يحلقون في كل اتجاه على أجنحة أمنياتهم وأحلامهم، وخلال استماعي لهم، باغتني ابني الأكبر بقوله: أنا أعرف ما هي أقصى أمانيك يا أبي، فقلت له: ماذا؟ فقال: أنا واثق بأنك تتمنى أن تحصل على كل كتب العالم!

Ad

أستطيع أن أخمن من أين جاء ابني بفكرة أن أمنيتي القصوى هي حيازة كل كتب العالم، فهو لا يشاهدني إلا وبيدي كتاب ما، ولا يراني داخلاً البيت أو خارجاً منه ومعي حقيبة أو كيس إلا وفيهما كتب، وكيف أني لا أستلم طرداً إلا وفيه كتب، ويشاهد كيف تمتلئ صالة البيت وغرفتي ومكتبتي بالكتب، من مختلف الأحجام والأشكال والألوان، لذلك فمن الطبيعي أن يدرك أني عاشق مغرم بها، وأنني ربما، أقول ربما، قد أتمنى حيازة كل كتب العالم، لكنني آمل ألا يراني شخص معقد مهووس!

لكن ومع هذا، فكمية الكتب التي يقتنيها الإنسان، لا تقدم دليلاً يمكن الركون إليه على أن صاحبها من القراء النهمين، أو من طلبة العلم النابهين، فكثير ممن يملكون مكتبات ضخمة تحوي العشرات والمئات وربما الآلاف من الكتب، هم من الأبعد عن القراءة، وقصارى أمرهم أنهم يستمتعون بجمعها وتكديسها، إما كهواية بحتة، وإما كمظهر ووجاهة، وإما لأي سبب آخر، إلا أن هؤلاء، على سيئتهم، يظلون أفضل من غيرهم، فلعل الواحد منهم، حين يرحل عن الدنيا، سيخلف وراءه شيئاً يستفيد منه أولاده، هذا إن كان منهم من جعل الله في نفسه حب القراءة، منتصراً بذلك على قهر الجينات التي أورثها له أبوه!

هذا الذي قلته، قد يكون معروفاً إلى حد ما، لكن غير المعروف كثيراً، هو أن كثيراً ممن يمارسون القراءة فعلاً ليسوا بقراء حقيقيين!

ستقولون كيف؟

والإجابة هي، أن كثيرا ممن يمرون على السطور بأعينهم، ممن قد يقرؤون الكثير من المواد بشكل مستمر، لا يخرجون منها بأي حصيلة معرفية معتبرة، ولا تشعل في دواخلهم أي فكرة ذات قيمة، ولا يكون لهذه القراءات بعد ذلك أي انعكاس على منظومة تفكيرهم أو تصرفاتهم وسلوكياتهم، وبالتالي فإن عملية القراءة، قد صارت في حالتهم، أشبه ما تكون بممارسة ميكانيكية بحتة، دون ناتج «كيميائي» قادح في العقل والنفس والذات!

لهذه الفكرة صرت في الآونة الأخيرة لا أستسيغ ذلك التركيز المحموم على ما يسمى ببرامج ودورات القراءة السريعة، دون أن يواكبها، بل يسبقها التركيز على أهمية أن يكون لفعل القراءة ناتج معرفي فكري تثقيفي حقيقي، وأن يكون التدريب والتمرين مركزين على هذا.

منذ يومين سألني أحد الأصدقاء عن عدد الصفحات الأقصى الذي من الممكن أن أبلغه يومياً، فأخبرته، لكنني أضفت بعد ذلك بأن هذا الأمر ما عاد يعنيني كثيراً، فقد لا أتجاوز أحيانا في اليوم بضع صفحات من كتاب ما، وربما سطور، أتوقف عند ما فيها من أفكار لساعات طويلة، وقد تصبح زاد عقلي لفترة طويلة من الزمن.

هذه الفكرة الممارسة، تجعلني اليوم أستطيع أن أتخيل أن تلك المقولة الشعبية بأن «العلم في الراس مش في الكراس»، صادقة إلى حد كبير، إن نحن نظرنا إليها من زاوية مختلفة عن الزاوية «الصعلوكية» التي لعلها انطلقت منها ابتداء، من ألا فائدة من الكتب والتعلم.

نعم يا سادتي، إن «العلم في الراس مش في الكراس»، فلا قيمة لآلاف السطور والصفحات والكتب و»الكراريس» التي سيقرؤها الإنسان إن هي لم تخلف ثمرة حقيقية في رأسه!