لا أعتقد أن ثورة من الثورات التي اندلعت أخيراً في عالمنا العربي، أثارتنا أهل الخليج، خصوصاً نحن الكويتيين، وخلقت بيننا كل هذا التوتر والاحتقان، كما ثورة البحرين. والسبب في ذلك لا يحتاج إلى كثير ذكاء، إنه العامل الطائفي دون شك.

Ad

حجم الاتهامات التي تطايرت من الكل تجاه الكل، إلا من رحم ربي، بكل أشكالها وتلويناتها، من طائفية وعمالة وافتقار للحس الوطني وانعدام للإنسانية، لا يمكن وصفه. والمزايدات في هذا الصدد تجاوزت كل حد، حتى بلغت مبلغا يثير الغثيان، وجعلت البعض يفقد أعصابه.. للأسف!

مشهد البحرين صار اليوم ملتبساً جداً، على عكس ما كان عليه في الأيام الأولى، على الأقل بالنسبة إلي شخصياً، ففي الأيام الأولى، كانت الصورة محددة، وكنت لذلك محددا جداً في موقفي، وهو الذي سيظل متوافقاً منسجماً مع مواقفي تجاه بقية الأحداث في تونس ومصر وليبيا واليمن وكذلك ما يجري في سوريا اليوم.

كان موقفي، وسيظل، هو أن من حق الشعوب أن تعبر عن رأيها، وأن تطالب بما تريده بالطرق السلمية، وأن من الواجب على الحكومات والأنظمة أن تنصت إلى شعوبها، وأن تحقق مطالبهم الإصلاحية لأن هذا هو مقتضى الحكم العدل، وأن كل فئات الشعب سواء في الحقوق، لا فرق بينهم لمذهب أو طائفة أو عرق أو جنس أو فكر، ماداموا يؤدون واجباتهم تجاه الوطن.

لكن اليوم، وفي ظل هذا الاضطراب الإعلامي الواضح، وهذا التلويث الفاقع لحقيقة ما يجري في البحرين، وفي ظل هذا الكم المهول من الأخبار والصور وتسجيلات الفيديو، التي ملأت الإنترنت والهواتف النقالة، واختلط بها الحق بالباطل، بين ما هو حقيقي وواقع فعلا وما هو خاطئ ومختلق ومزور، وذلك من طرفي الصراع، ولن أتهم طرفاً دون آخر، فمن الصعب عليّ، باعتباري متابعاً من الخارج، وبعيدا عن ساحة الحدث أن أقطع بحقيقة تفصيلات وجزئيات ما يجري.

طوال الأيام الماضية والمشهد المتكرر طوال اليوم كالتالي: يصلك خبر أو صورة أو فيديو مرعب من طرف «سني»، متبوعاً بعبارة: انظر ما الذي يفعله الشيعة للاعتداء على البحرين وعلى السنّة، طالبا منك التصريح أو اتخاذ موقف، وبعدها بدقائق يأتيك خبر أو صورة أو فيديو مرعب أيضاً من طرف «شيعي» متبوعا بعبارة: انظر ما الذي تفعله الحكومة البحرينية بالمتظاهرين المسالمين العزل، طالباً منك التصريح أو اتخاذ الموقف، وكثير ممن أعرف انجرفوا وراء هذا.

لكن قناعتي الشخصية في ما أراه الآن، هو أن جميع هذه الأخبار، وكما تحتمل الحقيقة فهي تحتمل الزيف، وكما أن هناك أخباراً تحدثت ومشاهد أظهرت بشاعة القمع ضد المتظاهرين، فإن هناك أخباراً تحدثت ومشاهد أظهرت بشاعة وخطأ ممارسات المتظاهرين، والعكس بالعكس.

وقبل هذا أدرك أن أي صورة وأي فيديو، ليس سوى لقطة تحبس الزمن في لحظات بعينها، ومن ثم فهي لا تعبر إلا عن تلك اللحظات وذلك المكان، هذا إن لم تكن قد طالتها يد التزييف والتحريف أصلاً، كما رأينا في الكثير مما جرى بثه ونشره، ومن ثم فإن المزايدات والابتزاز الفكري الذي يمارس من هذا الطرف أو ذاك، لإجبارك على اتخاذ موقف أو الإدلاء بتصريح لمجرد متابعة خبر أو مشاهدة صورة أو فيديو بعينه، ما هي إلا مزايدات ضحلة وللأسف.

لهذا فليس من منجى عند الحكم على ما يجري إلا بالاعتصام بالمبادئ، وهي التي قلتها في بداية هذا المقال، وسأكررها بشكل مركز هنا. للشعوب، أيا كانت، وفي أي مكان كانت، في البحرين وغيرها، الحق، كل الحق، في المطالبة بحقوقها السلمية المشروعة، وعلى الحكومات والأنظمة التعاطي والتحاور معها بالعدل والإنصاف. لا للقمع والتسلط، وكذلك لا للخروج عن المسار السلمي في التعبير والجنوح إلى الغوغائية. نعم للشعارات الوطنية الجامعة، ولا للشعارات الطائفية المفرقة. نعم للولاء للوطن، والوطن فقط، ولا للتلويح بأعلام وصور الجهات الخارجية، تحت أي ذريعة كانت. كما أن الواجب أن يعلو صوت الحكمة والعقل من الجانبين لأجل الحوار والتواصل، وأن يضرب كل طرف منهم على يد من معه ممن يحاولون أن يشعلوا الموقف ويفجروه!

نقطة أخيرة، وبنظرة سياسية متجردة، فإن ما يجري في البحرين الآن هو معركة دموية، لن يكون فيها رابح أبداً، وفي ظل عدم تكافؤ القوة الواضح، فإن هذا الاندفاع المحموم من المتظاهرين للتصادم مع قوات الأمن والعسكر، تحت أي ذريعة كانت، عقدية أو نضالية أو غيرها، لن يقود إلا إلى مزيد من الضحايا والجثث والأشلاء والدماء، وفي المقابل فإن هذا الاستمرار في القمع الدموي الرهيب لن يخمد الثورة، حتى إن سيطر عليها في الظاهر، بل سيزرع الأحقاد والغل في النفوس لأجيال وأجيال قادمة، لتعود بأشكال مختلفة.

إن البحرين اليوم بحاجة إلى نداءات ورسائل التهدئة والحكمة من الداخل والخارج، من الطرفين السنّي والشيعي، وهي قطعا ليست بحاجة إلى التصريحات المجنونة الخالية من أي ذرة من حصافة، كتلك التي صدرت من البعض في الأيام الماضية.