هكذا يكتب الدارسون في الغرب اليوم كلمة التاريخ بالإنكليزية ولهذه الكتابة أسباب تبدو جوهرية وحقيقية. فالتاريخ هو قصة أو رواية ينقلها لنا مؤرخ، وهو في الأغلب رجل، يتناول من خلالها صفات وسِيَر رجال آخرين سبقونا في الحياة وعلينا أن نثق بالتاريخ ونصدق الرواية دون البحث في أهدافها أو نواياها. وكلما ابتعدنا في التاريخ تأصلت الحكاية التاريخية وأصبحت حقيقة ليس لها ما ينقضها. وكلما بلغت شخصية تاريخية ما مجداً تطوع القارئ للتاريخ بكتابة تاريخية جديدة تظهر الشخصية التي يريدها بدور البطل المثالي أو الشخصية البيضاء التي لا تلحق بها شائبة من شوائب الحياة التي عاشها ويقترب بها من الشخصية الملائكية.

Ad

ذكرت في مقال سابق أن التاريخ تصحبه قراءتان، الأولى من الأعلى الى الأسفل اذا أردنا اظهار ما نقرأ بالمظهر الأبيض، والثانية من الأسفل الى الأعلى اذا أردنا عكس ذلك، فمثلا قد يرى البعض اليوم أن أبراهام لنكولن هو محرر الزنوج في أميركا ويراه البعض هو المستعبد الجديد للعبيد ولكن تحت شعار الثورة الصناعية التي كانت بحاجة الى عمال لآلاتها. وبسبب ذلك النمط القرائي للتاريخ لن نستغرب في المستقبل البعيد أن نرى شخصية كشخصية الطاغية صدام حسين شخصية بيضاء منقاة بعدة قراءات متتالية.

لا أقصد بما سبق القياس على ما سيأتي، ولكن أي شخصية مهما احتلت من مساحة تاريخية ووصلت الى مرحلة قريبة من التقديس، بحاجة الى قراءة من الأسفل الى الأعلى وعلى الباحث أن يتجرد في قراءته من الهالة الشعبية التي أحاطت وتحيط بالشخصية التاريخية.

والصعوبة التي يجدها القارئ أو الدارس التاريخي تكمن في قراءة الشخصيات التاريخية التي ترتبط بالتاريخ الديني. ففجأة تخرج جميع الشخصيات بيضاء ملائكية يقينية لم تخطئ أبداً في سيرتها العامة أو الخاصة وتكاد تقترب من العصمة النبوية. المشكلة حين يكون المؤرخ أكثر أمانة من باحث التاريخ، فالأول حقق الحادثة ونقلها، أما الأخير فأغفلها كي لا تؤثر في بياض الشخصية التي يريد تناولها. ويعتمد الباحث هنا غالبا على ابتعاد القارئ عن الكتب الأصلية. سنضرب مثلا بشخصية خالد بن الوليد التي يقدمها كتاب التاريخ بنصوص عليها ختم شيوخ الدين الذين يجيزون النصوص وربما تدخلوا لإضافة هالة من البياض لرسم شخصيات اسلامية بيضاء. في ثلاثة أعمال عن خالد بن الوليد عرضتها الفضائيات العربية، كانت الأعمال تتهرب أو تتناول قضية زواجه من زوجة مالك بن النويرة بعد مقتل زوجها مباشرة بشيء من الغموض والتمييع، رغم أن نشرها كما وردت في أمهات الكتب التاريخية لا يضير خالد بن الوليد ولا ينقص من شأنه ولا من عبقريته القتالية التي سهلت للإسلام دخول البلدان المحيطة بجزيرة العرب. وهي حادثة وقف منها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) موقفا واضحا، حتى أنه كان يريد اقامة الحد عليه لولا معارضة الخليفة. تلك رواية المؤرخ الطبري الذي لم يكترث في نشرها لمكانة الشخصية التاريخية، بل كان يسعى إلى الأمانة التاريخية. فلماذا يرى كتّاب التاريخ الجدد قدسية للشخصية تعطل هذه الأمانة.

لا أرى ما يمنع من أن نذكر في قراءة الشخصية ما لها وما عليها ولا يضير ذلك الشخصية وانجازاتها فنحن في النهاية نتعامل مع بشر لا أنبياء. أما محاولة نشر البياض فهي محاولة تقديم صور مغايرة للواقع أو تجاهل حقائق كانت واقعية تحت حجة واهية هي أن نقدم للمتابع صورة جميلة عن المسلمين وربط علاقة غير حقيقية بين الاسلام والمسلمين. مكمن الخطورة هو أن نعتاد كتابة تاريخ حسب الأهواء وكأن شخصيات التاريخ هي التي تملي علينا ما يجب كتابته.