ما قل ودل: منظومة العدل في شهر الصيام

نشر في 15-08-2010
آخر تحديث 15-08-2010 | 00:01
إن جوهر الصيام الذي تجتمع عليه الأمه الإسلامية قاطبة في هذا الشهر الكريم، هو أن يكون صياماً عن الظلم وعن أذى النفس والعرض، وهو الأذى الذي يتعرض له المسلمون على أيدي المسلمين دون أن ينهاهم عن كل ذلك صيام أو صلاة.
 المستشار شفيق إمام تناولت قضية تعذيب خالد السعيد حتى الموت على أيدي شرطيّين في أحد شوارع الإسكندرية في مقالين متتاليين سابقين، كان محورهما بالإضافة إلى واقعة التعذيب موقف بعض المقالات في الصحف المصرية التي استنكرت بيان الاتحاد الأوروبي الذي طالب بالتحقيق في هذه القضية، واعتبرته مساساً بسيادة مصر وتدخلاً في شؤونها الداخلية، وكنت قد وعدت أن أخصص هذا المقال لحديث مفصل يتناول معضلة التوفيق بين مبدأ سيادة الدول وبين التدخل الدولي الإنساني لحماية حقوق الإنسان، لكن نفحات الشهر الكريم أوحت إليَّ بأن أتناول قضية العدالة التي حرم منها خالد السعيد، وصحة صيام المسلم وقبول صيامه وصحة صيام الجماعة وقبول صيامها إذا سكتا عن الظلم أو مارساه.

المعنى الكبير للصوم

قال الرسول عليه الصلاة والسلام "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

ذلك أن للصوم معنى أكبر من تعريفه شرعاً بأنه الإمساك عن المفطرات يوماً كاملاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو التعريف الذي يقول به الشرعيون، ويتناولون فيه مفطرات الصيام من أكل وشرب، وكأن الصيام هائم في فراغ المدينة الفاضلة التي لا تعرف من مفطرات الصيام إلا الأكل والشرب.

صلاح ذات البين أفضل درجة من الصيام

يقول الرسول عليه الصلاة والسلام "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هو الحالقة، لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"، ومؤدى هذا الحديث الشريف أن إصلاح ذات البين يقيم الدين ويرسّخ الإيمان والتقوى في النفوس بين المسلمين، وهو أعلى درجة من فريضة الصيام. وإصلاح ذات البين بين جماعات المسلمين المتناحرة والمتحاربة في العراق وأفغانستان والصومال وغيرها من بقاع العال، هو الذي يقيم الإسلام ويعزز قوة المسلمين ومنعتهم، ليكونوا كما وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام خير أمة أخرجت للناس.

وإن جوهر الصيام الذي تجتمع عليه الأمه الإسلامية قاطبة في هذا الشهر الكريم، هو أن يكون صياماً عن الظلم وعن أذى النفس والعرض، وهو الأذى الذي يتعرض له المسلمون على أيدي المسلمين دون أن ينهاهم عن كل ذلك صيام أو صلاة.

العدل أساس الملك

كما أمر الله ولاة الأمر بالعدل في قوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".

وفي قوله للنبي داود "يا داود أنا جعلتك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى".

فليراجع كل مسؤول نفسه قبل أن يتخذ قراراً إلا لمصلحة عامة، في هذا الشهر الفضيل حتى لا يميل مع هوى النفس، أو يتزعزع مع العصبة أو يتأرجح مع العداوة والكراهية.

فالله ينهى عن أن تكون كراهية قوم سبباً للحيد عن العدل في قوله تعالى "ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب إلى التقوى".

وأن يتسع صدر القاضي، ولو كان صائما حين تضيق صدور الآخرين، وأن يكون أصبرهم على كشف الأمور لبلوغ الحقيقة وأقلهم تبرماً بتحقيق دفاع الخصوم، فلا يؤجل قضية لكونه صائماً، أو بغير مقتض، طالما اتضح الحكم فيها.

العدل خلق الصائم

فبالعدل وحده تُصان القيم وتسمو المبادئ والأخلاق في هذا الشهر الكريم، وقد أمر الرسول بالعدل ولو مع فاجر أو كافر، قال عليه الصلاة والسلام "دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه". كما قال "دعوة المظلوم -وإن كان كافراً- ليس دونها حجاب".

وقد ترددت كلمة العدل والقسط والميزان ثلاثين مرة في القرآن الكريم، لتكون خلقاً للجماعة وللفرد في قوله تعالى "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، و"إذا قلتم فاعدلوا"، "اقسطوا إن الله يحب المقسطين".

فعلى كل موظف يقدم خدمة عامة أن يتحلى -في علاقته ومعاملته مع الناس- في هذا الشهر الكريم بالصبر والتواضع، وأن ينجز ما استطاع معاملاتهم في أسرع وقت لينال ثواباً مضاعفاً في هذا الشهر الفضيل، ليستحق ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة"، ومن هنا يكون ثواب الصائم صاحب حسن الخلق مضاعفاً.

وأن يرعى التاجر الله في بيعه وتجارته، فلا يغلو على الناس، ولا يستغل حاجتهم، ولا يحجب بضاعته عنهم حتى ترتفع أسعارها، فكما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانه له ولا دين لمن لا عهد له"... وقد كان رسول الله في حياته الأولى قبل الرسالة تاجراً يلقب بين قومه بالأمين.

وعلى المسلم في هذا الشهر الفضيل حتى يُقبل صيامه أن ينقي ويطهر صدره من الأحقاد، يقول المولى عز وجل: "ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم".

كما يقول: "لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".

وعلى الخصوم في ساحة القضاء، حتى يصح صيامهم، فهم أحد رجلين، إما أن يكون ظالماً وإما أن يكون مظلوماً، عليهم العلم بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "مَن كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".

وعساكم من عواده.

back to top